"إن الحكم إلا لله ".. قالها عبد الرحمن بن ملجم لعنة الله عليه وهو يقتل الإمام على كرم الله وجهه.. قالوها قتلة عثمان بن عفان وقالوا أكثر منها.. ولا عجبا أن يُقتل علي وعثمان باسم الدين. فكم من فتنة وجرائم ارتكبت باسم الدين. والمسألة ببساطة هي "الدين" و"الأخلاق" أقوى نوازع البشرية، كلمة السر والسيف السحري الذي سلطه كثير من الطغاة عبر الزمان على رقاب العباد لإخضاعهم دون نقاش. فتحويل خلاف عدوك معك إلى خلاف مع الدين وعرف الزمان والمكان، وإنكار معارضك لك إلى إنكار للدين حري بإهدار دمه وفض الناس من حوله. حتى أنبياء الله ورسله رفع سلاطين الكفر هذا السيف في وجوههم.. فعلها فرعون مع موسى.. اتهمه بالكذب والسحر.. حوَّل دعوته من الإله الواحد إلى إخراج الناس من أرضهم والذهاب بطريقتهم المثلى.. خطاب اجتماعي وديني لذلك العصر ظن أن يبقي سلطانه.. ولأن الله مظهر دينه.. فضح جوهر الخلاف في قول فرعون وآله "قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض".. الكبرياء في الأرض، تلك هي العلة إذن.. وجوهر الصراع وشهوة السلطة المبطنة في خطاب الدين. أما قريش فكانت أكثر وضوحاً ومباشرة قالوها في وجه النبي الأعظم " وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل منَ القريتين عظيم ".. فهم أيضاً لم يكن الدين قضيتهم ولكن السلطان. قالوها صراحة ومباشرة بعد أن فشلت كل روحانياتهم وأباطيلهم في وجه دعوة الحق. فلم يكن فرعون أو حتى النمرود بالسذاجة التي تجعلهما يصدقان أنهما حقا إلهين.. لكنه السيف الأمضى المضطران له لإخضاع رقاب العباد وتدعيم سلطانهما. فمحاولة إحراق خليل الله إبراهيم ما كان لها أن تمضي لولا التمهيد بالقول" قالوا من فعل هذا بآلهتكم إنه لمن الظالمين " وصولا ل " حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين".. ومن كان يومها يستطيع أحد أن يتخاذل عن نصرة الآلهة أو يجاهر بمجرد التعاطف مع من أعمل عقله وخرج على النظام. ومن نبي الله إبراهيم إلى جاليليو في عصور الظلام الأوروبية.. كانت الكنيسة هي السلطان.. وما اقترفه جاليليو لم يبعد كثيرا عما فعله نبي الله إبراهيم..أعمل عقله.. نظر في النجوم.. صنع تليسكوب ملعون، وقال للعالم الأرض ليست مركز الكون.. فكان جزاؤه الحرق أيضاً. إنه "سيف الدين" القادر على أن يقسم المخالف حتى لو رفعه جاهل أو كافر.. الأنبياء فقط هم من نجتهم نبوتهم منه.. وتمر السنون ويستوعب عشاق السلطة المطلقة الدرس.. إن أردت أن تخضع رقاب الجميع فليس أمامك إلا "سيف الدين".. فمعارضك كافر، ومخالفك خارج عن الجماعة.. ببساطة إلباس الحق بالباطل.. مواراة الأطماع في ثياب الدين.. بنيان هش سرعان ما ينهار وتنكشف حقيقته.. وعرفت أوروبا اللعبة، وشهدت مصر الفرعونية يوما رفع فيه المصريون البسطاء أحذيتهم في وجه من كان يلقب نفسه بالإله أو ابن الإله. وفي المقابل عرفت البشرية النظام المثالي، عندما تجسد الدين في شخص الحاكم، حيث العدل المطلق، والحكمة الإلهية.. عرفته البشرية لسنوات معدودة.. عرفته في حكم ذي القرنين، وداود، وسليمان.. أما خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الذي لم ينطق عن الهوى.. فقد جاء لبناء دولة تبقى إلى يوم الدين.. فكان الإنسان ومبدأ الشورى والعلم أساسها لم يلجأ صلى الله عليه وسلم إلى المعجزات والخوارق الإلهية "التي تذهب بذهاب النبي" في تدعيم دولته، بل كان العقل والعلم والعمل أساسها و" قل أعملوا فسيرى الله عملكم...". وهو أيضاً من أمر أمته بطلب العلم ولو في الصين (على بعد المكان والعقيدة). كان رجل السياسة الذي لم يوقع معاهدة فقط مع أهل الكتاب من اليهود فحسب بل وقع مثيلتها مع عبدة الأصنام في قريش. ولأن خلفائه رضي الله عنهم أجمعين فهموا حقيقة الإسلام وجوهر الدولة المسلمة، لم يتلبس أحدهم الدين ويحتكره لشخصه لم يكفر أو يحقر أحدهم المسلمين.. فقال أبوبكر" وليت عليكم ولست بخيركم...".. وقالها أحد الصحابة لعمر بن الخطاب "لو وجدنا فيك اعوجاجاً قومناك بهذا(شاهرا سيفه)". تلك هي دولة الإسلام التي كان يتهرب فيها الأتقياء الأنقياء من الحكم والقضاء موقنين بأن السلطة أمانة وابتلاء. تلك هي دولة الإسلام التي لم يتنطع خواصها على عامتها بعبادتهم ولم ينافقوا سلطانها ليُحِلوا ما أراد ويحرموا ما كره. دولة الإسلام لم يكفر فيها عمر من شهر فيها سيفه في وجهه بل قال "الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر بن الخطاب بسيفه". دولة كان قادتها يهربون من الجاه والسلطان لم يرتشو ولم يرشو للوصول للحكم لم يستغلوا حاجة فقرائهم وضعف جهلائهم ليصيبوا جاها أو سلطاناً. تلك هي الدولة التي كلت الإنسانية في البحث عنها، تلك هي دولة الإسلام، وهؤلاء هم رجالها.. أما المتنطعون فليس لهم إلا قولة المصطفى " هلك المتنطعون. هلك المتنطعون. هلك المتنطعون ".