النبي([) أخرج اليهود من المدينة لأسباب سياسية وطنية في المقام الأول تمتع مواطنو المدينة في عهد النبي بكامل حقوقهم بغض النظر عن معتقداتهم بنو النضير: فلما كانت السنة الثالثة من الهجرة أقبلت قريش بجموع كثيرة تريد الهجوم بها علي المدينة, فأخذ يهود بني النضير يكيدون للمسلمين, ويظهرون العداوة والبغضاء لهم, وقد طلب النبي صلي الله عليه وسلم منهم أن يقرضوا أموالهم لله ليجاهد بها في سبيله, وهم يؤمنون به كما يؤمن المسلمون به, وقريش مشركة تعبد الأوثان والأصنام, فقالوا له: تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا, وما يستقرض إلا الفقير من الغني, فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذن فقير ونحن أغنياء. فأنزل الله فيهم لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق الآية 181 من سورة آل عمران. وهكذا أبي اليهود أن يساعدوا النبي( صلي الله عليه وسلم)بشئ من أموالهم, مع أن المعاهدة التي أخذوها علي أنفسهم تقضي عليهم بذلك. وقد أصيب المسلمون في هذه الغزوة( غزوة أحد) بما أصيبوا به, فأظهر بنو النضير الشماتة فيهم, وأظهروا ما كانوا يخفونه من العداوة والبغضاء, وأخذوا يطعنون في النبي( صلي الله عليه وسلم) ويشككون في نبوته بما حصل للمسلمين من الهزيمة في هذه الغزوة, وكانوا يقولون لمن يجلس إليهم: ما محمد إلا طالب ملك, ما أصيب بمثل هذا نبي قط, أصيب في بدنه, وأصيب في أصحابه. وبهذا نقض بنو النضير عهدهم مع المسلمين, ولم يقوموا لهذا الوطن الذي آواهم بواجب الدفاع عنه, فصار من حق المسلمين أن يجلوهم عنه, كما أجلوا بني قينقاع من قبلهم, ليعطوا غيرهم من اليهود درسا جديدا, يعلمهم المحافظة علي العهود, ويذكرهم بما يجب عليهم تجاه هذا الوطن الذي يجمعهم جميعا. أرسل النبي صلي الله عليه وسلم إليهم محمد بن مسلمة الأنصاري, أن اخرجوا من هذه البلاد فلا تجاورونا فيها, وقد أجلتكم عشرا, فمن رئي منكم بعد ذلك ضربت عنقه. فلما بلغهم محمد بن مسلمة ما أرسل به إليهم هموا بالخروج, وقد عرفوا ما حصل لبني قينقاع من قبلهم, ولكن عبد الله بن أبي أرسل إليهم: لا تخرجوا من دياركم, وأقيموا في حصونكم, فإن معي ألفين من قومي يدخلون حصونكم, ويموتون عن آخرهم. فاغتروا بقول عبد الله بن أبي, وأرسلوا إلي النبي( صلي الله عليه وسلم): إنا لن نخرج من ديارنا, فاصنع ما بدا لك. وكانوا ينزلون بوادي بطحان بظاهر المدينة, علي ميلين أو ثلاثة منها, فسار النبي( صلي الله عليه وسلم), وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة, ولم يتحرك عبد الله بن أبي لمساعدتهم, فلما يئسوا منه أرسلوا إلي النبي أن يجليهم ويكف عن دمائهم, وأن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب, فأجابهم إلي ما طلبوا, فخرجوا من واديهم فقصد بعضهم خيبر فنزل بها, وقصد بعضهم أذرعات فنزل بجوار بني قينقاع. بنو قريظة بقي في المدينة من اليهود قبائل بني قريظة وهذا يدلل علي أن النبي( صلي الله عليه وسلم) لم يخرج بني النضير ومن قبلهم بني قينقاع لأنهم يهود ولكن لأنهم خانوا العهد الذي وقعوا عليه مع المسلمين, وكان ما حدث لهم اقل جزاء لخيانة العهد في تلك الحقبة من الزمن. الأمر هنا يتعلق بالخيانة الوطنية, ولا علاقة له بالاختلاف الديني, اليهود فرطوا في وطنهم, وخانوا عهد المواطنة, وأحلوا لأنفسهم أن يتآمروا ضد مصلحة الوطن الذي يضم الجميع: مسلمين ويهود ومشركين. وكل محاولة لتقييم موقف النبي( صلي الله عليه وسلم) علي أساس ديني, تهدر حقيقة أن الموقف النبوي كان وطنيا لا دينيا. كان زعماء بني النضير قد عملوا علي إثارة قريش وقبائل العرب علي المسلمين, وقد أعماهم الحقد علي المسلمين من جراء ما حدث لهم( الإجلاء عن المدينة) إلي الحد الذي باعوا فيه دينهم, فلما قدموا علي قريش ودعوهم إلي حرب النبي( صلي الله عليه وسلم), قال لهم القرشيون: يا معشر يهود, إنكم أهل الكتاب الأول, وأهل للحكم علي ما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد, أفديننا خير أم دينه؟ فقال يهود بني النضير بل دينكم خير من دينه( د. عبد المتعال الصعيدي: نفسه ص90). وهذه أكبر فضيحة حدثت لليهود عبر التاريخ, لأن دين محمد هو التوحيد, ودين قريش هو الشرك, ودين اليهود هو التوحيد لا الشرك, فكيف يحكمون بأن دين الشرك خير من دين التوحيد, وقد أخذ الله عليهم هذا: ألم تر إلي الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلا في الآية 51 من سورة النساء. ثم حكم بأن هذا منهم ردة عن دينهم: تري كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون(80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون(81)[ المائدة:80 81] والمراد بالنبي في الآيتين موسي عليه السلام, والمقصود بما أنزل إليه, هي التوراة. اشتد الخطب علي المسلمين حين علموا بنقض بني قريظة عهدهم, ووقعوا في رعب شديد, حتي قال بعض المنافقين: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر, وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلي الغائط. وهنا تدارك الله المسلمين برحمته, وهدي زعيما من زعماء المشركين إلي الإسلام, وهو نعيم بن مسعود الآشجعي, فأتي إلي النبي( صلي الله عليه وسلم) في السر, وأخبره بإسلامه وطلب إليه أن يأمره بما شاء, فقال له النبي( صلي الله عليه وسلم) إنما أنت فينا رجل واحد, فخذل عنا إن استطعت, فإن الحرب خدعة( د. عبد المتعال الصعيدي: نفسه ص94). فسار نعيم بن مسعود إلي بني قريظة, وكان لهم نديما, فلما رأوه رحبوا به, وعرضوا عليه الطعام والشراب, فأخبرهم أنه جاءهم لغير هذا, وأنه يخاف عليهم إذا حاربوا محمدا أن تتركهم قريش وليس لهم طاقة به, وأنه يري أن يأخذوا رهنا من أشرافهم تكون ثقة بأيديهم قبل أن يحاربوا معهم, وقد استحسنوا ما أشار به عليهم, فأمرهم بكتمان اتصاله بهم. ثم سار إلي قريش فأخبرهم بأن بني قريظة ندموا علي نقض عهد محمد, وأنهم يريدون أن يرضوه بأخذ سبعين من أشرافكم ليكونوا رهنا عندهم, ثم يقدموهم إليه لقتلهم, وطلب منهم أن يكتموا ما حدثهم به. فلما أرسلوا إلي بني قريظة يدعونهم إلي القتال طلبوا منهم أن يعطوهم رهنا, حتي لا يتركوهم ويذهبوا إلي مكة, فاعتقدوا صدق ما أخبرهم به نعيم بن مسعود عنهم, ولم يجيبوهم إلي ما طلبوا من الرهن, فلم يجيبوهم أيضا إلي ما طلبوا من القتال, وفسد ما بينهما بهذه الحيلة البارعة. وقد قام النبي( صلي الله عليه وسلم) بعمل أبرع من عمل نعيم بن مسعود, حين أمكنه أن يأتي بزعيمين من زعماء الجيش المحاصر: وهما عيينة بن حصن والحارث بن عوف, ليعرض عليهما صلحا منفردا علي أن يقطعهما ثلث ثمار المدينة, وعلي الرغم من فشل الصفقة لا عتراض قادة الأنصار عليها, فإن عيينة والحارث رجعا إلي قريش بعد أن قاما بهذه الخيانة يملأهما القلق والخوف من أن تكون قريش قد علمت بأمرهما, فضعف ذلك من ثقتهما في قريش فانفرط عقد الأحزاب وهموا بالانصراف عن المدينة دون قتال. السلوك السابق كله ينم عن وعي الرسول بالدنيا وما يحكمها من قواعد وأعراف, فالحرب خدعة, والحرب النفسية وسيلة مأمور بها, والإيمان الديني العميق لا يعني التواكل والاستسلام للقدر, والمبادئ المثالية لا تعيش في المطلق, ذلك أنها وليدة الاحتكاك بالواقع والتفاعل معه. كان جرم بني قريظة أشد من جرم بني قينقاع وبني النضير, لأنهم ارتكبوا ما يسمي في التاريخ الحديث بجريمة الخيانة العظمي لوطنهم الذين يعيشون في كنفه ولمواطنيهم الذين يربطهم بهم عهد أمان, فلم يمهلهم النبي( صلي الله عليه وسلم) شيئا بعد رحيل قريش, فقال لأصحابه: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة. فحاصروهم خمسا وعشرين ليلة, إلي أن طلبوا أن ينزلوا من حصونهم علي مثل ما نزل عليه بنو النضير, فأبي النبي( صلي الله عليه وسلم) إلا أن ينزلوا علي حكمه من غير قيد ولا شرط, فرضوا بذلك, وقد مشي في أمرهم رجال من الأوس, لما كان بينهم من الحلف قبل الإسلام, وطلبوا من النبي( صلي الله عليه وسلم) أن يعاملهم بمثل ما عامل به بني النضير, فأبي أن يجيبهم إلي هذا, ولكنه رأي من السياسة والحكمة أن يجعل الحكم فيهم لسعد بن معاذ سيد الأوس, فحكم سعد فيهم بأن تقتل رجالهم, دون نسائهم وأطفالهم, وهذا هو حكم الخيانة العظمي في كل الشرائع القديمة والحديثة( د. عبد المتعال الصعيدي: نفسه ص95). وهكذا انتهت معاهدة المسلمين ويهود المدينة بهذه الكوارث التي حلت بهم, لأنهم لم يخلصوا لها حين عقدها, وقد طاولهم النبي( صلي الله عليه وسلم) ما استطاع مطاولتهم, وأخذهم بنقض العهد قبيلة بعد قبيلة, ليعطي من بقي منهم مهلة لمراجعة أنفسهم, ولكنهم لم يرتدعوا وآثروا الاعتداء والخيانة تلو الخيانة حتي أخذوا جزاء ما فعلوا كاملا. ثالثا: المنافقون: لم يكن النبي محمد عليه الصلاة والسلام مجرد حاكم, وإنما كان رسولا نبيا يأتيه وحي من السماء ويقوم بنشر دينه داخل حدود دولته وخارجها, وكان المنافقون هم عنصر المعارضة ضد حكومة النبي, وكانوا يعارضون الإسلام دينا ويعارضون سلطة النبي وسياساته, وقد منعهم خوفهم من التمرد المسلح ضد الدولة وكانوا أضعف جدا من القيام بثورة فاكتفوا بالكيد والتآمر ثم يقسمون بأغلظ الأيمان ببراءتهم مما يفعلون, وتمتعوا في مسيرة التآمر تلك بالحرية الهائلة التي كفلها لهم القرآن في القول وفي الفعل ضد الدولة التي يعيشون في كنفها ويعملون ضدها. واكتفي القرآن بالرد علي مكائدهم وادعاءاتهم وفضح تآمرهم مع التنبيه المستمر علي النبي والمسلمين بالإعراض عنهم والاكتفاء بما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة وكانت حرية الرأي تصل بالمنافقين إلي سب المؤمنين ووصفهم بالسفهاء ولا يرد عليهم إلا بالقرآن: وإذا قيل لهم آمنوا كما أمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون, البقرة:13]31/2. وكان يحلو لهم الاستهزاء بالمؤمنين خصوصا في أوقات الاستعداد للحرب, فمن يتطوع بالصدقة يصفونه بالرياء إذا كان غنيا ويتندرون عليه إذا كان فقيرا, بينما هم يمسكون أيديهم عن التطوع بالمال والتطوع للقتال: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم97/9. وكان النبي علي الرغم من كل هذه السلوكيات يستغفر للمنافقين ويطلب لهم الهداية فنزل قوله تعالي: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين:80/9. وكانوا اذا سئلوا عن هذا الاستهزاء بالقرآن أجابوا باستخفاف أنهم يلعبون ولم يكن النبي( وهو الحاكم الأوحد للمدينة) يتخذ معهم أي إجراء, ويأتي الوحي يخبرنا بذلك ويثبت كفرهم ولكن يجعل عقوبتهم من لدن الله تعالي ان شاء: ولئن سألتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون(65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين(66)65/9:.66 وكانوا يقيمون مجالس علنية للاستهزاء بالقرآن, وكان يحضرها بعض المسلمين بحسن نية, ونزل القرآن يحذر المسلمين من حضورهم لتلك المجالس, ومع ذلك كان بعضهم يحضرها, فنزل قوله تعالي: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتي يخوضوا في حديث غيره إنكم اذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا140/4 تقصد النبي( ص) بالأذي: واختصوا النبي بكثير من الأذي القولي مع أنه الحاكم السياسي والرسول صاحب الوحي. فقد كان النبي مأمورا بإقامة الشوري, وكان لأجل هذا يستشير الناس جميعا ومن بينهم المنافقون فلما رأوا ذلك أتهموا بأنه أذن أي يعطي أذنه لكل من هب ودب, وأشاعوا هذا القول الساخر عن النبي فنزل قوله تعالي يدافع عن النبي: ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم61/9 فالله تعالي هو الذي يدافع عن النبي ويصفه بأنه يثق بالمؤمنين ورحمة لهم ويتوعد من يؤذي النبي بعذاب أليم, أما سلطة النبي كحاكم فلا مجال لها هنا في ذلك المجتمع الحر الذي يكفل للمعارضة كل الحرية في أن تقول ما تشاء( حتي لو كانوا من المنافقين), فقط نهاه الله تعالي عن طاعتهم ولكنه أمره بأن يدع آذاهم: ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل علي الله48/33 وفي غير الشوري كانوا يلمزون النبي اذا حرمهم من الصدقة وهم غير مستحقين لها لكونهم اغنياء وكانوا يحتجون عليه ويطاردونه بأقوالهم: ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها اذا هم يسخطون. 9/.58