الفقر، والمرض، والجهل، ثالوث الهلاك لكل قرى مصر، «زاوية الناعورة» مركز الشهداء- منوفية، واحدة من هذه القري التي تعيش تحت وطأة هذا الثالوث المدمر، لكنَّها حصدت النصيب الأكبر في نوعين من الأمراض لا ينجو منهما أحد من أهالي القرية- السرطان وفيروس سي- إلي حد أن هناك أسراً بأكملها مصابة بالسرطان بأنواعه المختلفة، كما هو حال أسرة سهير حامد، وهي الأشهر في القرية، حيث أصيبت وزوجها وأبناؤها الخمسة بالسرطان، ومات زوجها وابنها الأكبر، وحملت هي الهموم بمفردها بين سندان الفقر المدقع، والحاجة الشديدة، ومطرقة المرض التي حرمتها من الزوج والابن، وتترقب فراق باقي الأسرة، لكن الأدهي والأمر أنها هي نفسها تنتظر الرحيل بين لحظة وأخرى؛ بسبب سوء حالتها، وهي لا تخشي الموت، ولكنها مرعوبة من ترك أبنائها بمفردهم فريسة المرض والفقر. «الوفد» عاشت يوماً كاملاً مع أهالي قرية «الناعورة» رصدت آلامهم وأوجاعهم، والتقت الأسر المنكوبة لتسجل بالكاميرا ما لم تستطع أي كلمات وصفه، وتحمل مسئولية إيصال صوتهم واستغاثاتهم للمسئولين. لم يكن مشهد عربات الكسح، وهي تلقي مياه الصرف الصحي في الترعة التي يروي منها أهالي القرية زراعاتهم بالغريب علينا، فقد توقعنا هذا المشهد بمجرد سماعنا شكوي أهل القرية، والتي جسَّد أحد مواطنيها المأساة في جملة واحدة، عندما قال: «مخلفاتنا التي نتخلص منها ليلاً نعاود ونأكلها صباحاً». وكان لقاؤنا الأول مع سهير وأطفالها داخل منزلها الريفي الذي تفوح منه رائحة الفقر والمرض، سهير عمرها- 32 سنة- لها خمسة أطفال مصابون جميعهم بالسرطان، مات زوجها وابنها الكبير بالسرطان تحدثت معنا بنبرة تحدٍ لأم تصارع من أجل البقاء: «أنا مش خايفة من الموت اللي عايش معانا في كل ركن وكل خطوة وكل لحظة، وما حدش هايموت ناقص عمر، لكن الألم وعجزي عن تلبية مطالب ولادي الأيتام أمر لا يمكن لأي إنسان أن يتحمله مهما كانت قوته.. أنا أم أري أطفالي يموتون واحد ورا التاني قدام عيني ومش قادرة أعمل لهم حاجة». سألناها.. مين قالك إن المياه سبب إصابة ولادك بالسرطان؟ قالت: إحنا بنشرب مياه طلمبات، وهي مخلوطة بمياه الصرف الصحي، وعندما طلبت مستشفى 57357 تحليل عينة من المياه، الدكاترة قالوا لنا إن بها نسبة أملاح وحديد مرتفعة جداً تسبب السرطان والفشل الكلوى وغير صالحة للشرب ولا الطبيخ، وباشتري كل يوم كرتونة مياه معدنية وضهرى «أتقطم» من شيل المياه، ولولا مساعدة ولاد الحلال لكنا زماننا لسة بنشرب من مياه الطلمبات. وعن أحوال باقي أهل القرية قالت سهير: «المرض انتشر فى القرية كلها، وكل بيت فيه واحد أو اتنين، وهناك أسر بحالها زي حالاتنا، واللي يقطع القلب العيال الصغيرة اللي عندهم فيروس «سى»، وبيغسلوا كلى، ومستشفى «زاوية الناعورة» بالقرية ما فيهاش أي أجهزة ولا بتسعف حد، والدكاترة اللي فيها لسه صغيرين وبيتعلموا فينا، وشخصوا حالة بنتى غلط، وهى مصابة بالتهاب سحائى وسرطان بالمخ، وفى المستشفى قالوا لى إنها عندها الزايدة، وعملوا لها العملية بالغلط، وفي طفل تاني عنده الزايدة سابوه لما انفجرت به ومات (واشارت سهير إلي أن معها 9 حالات مصابة بالسرطان يتم علاجهم بمستشفى 57 من نفس القرية). وسألناها.. المياه بس سبب إصابة أهالي القرية بالأمراض؟ لا.. الدكاترة قالوا لنا إن أسلاك كهرباء الضغط العالي اللي فوق بيوتنا، ومحولات الكهرباء اللي لازقة في البيوت سبب أساسي في السرطان اللي اصاب اهل القرية، والتحاليل أكدت ارتفاع نسبة الرصاص في دمنا كلنا. لم يختلف حال باقي أهل القرية كثيراً عن حال سهير، فالهم واحد والألم مشترك، وهو ما أكده مغاوري محمد- 45 عاماً- يعمل فرد أمن بمستشفى زاوية الناعورة، حيث قال «الميه عندنا صفراء وفيها نسبة أملاح وصدأ عالية ورائحتها كريهة، مؤكداً أنهم يعيشون على شراء المياه المفلترة، وأن منزله آيل للسقوط لعدم وجود صرف صحى. وفى إحدى حوارى القرية الضيقة، تقابلنا مع عزيزة محمد- 45 عاماً- مصابة بفيرس «سى» بسبب مياه الشرب الملوثة، ما يجعلهم يعيشون على المياه المفلترة. وهو ما أكده البكري محمد السيد- 66 عاماً- مساعد شرطة سابق الحديث قائلاً: «إن لديه تليفاً كبدياً وفيرس سى لكنه لا يعرف أسباب مرضه، وانه ينفق 50 جنيهاً من أجل أن يجلب سيارات كسح الطرنشات لتلقى الكسح فى الترعة، وتعود لنا من خلال الزراعة حيث نأكل الزرع المروى بمياه المجارى». مشكلة أخري يعاني منها أهالي القرية وهو تعرض منازلهم للانهيار بسبب المياه الجوفية ومياه الصرف الصحي المتسربة من الطرنشات. وتقول إحدى السيدات، التى رفضت ذكر اسمها، إن العديد من أهالى القرية مصابون بالسرطان، وأمراض أخرى فى القرية، حيث يوجد فى المنطقة البيوت المجاورة فيها حوالى 5 أو 6 أطفال مصابون بالسرطان منهم اثنان يتم معالجتهما فى 57، وتوفى عدد من الأفراد بنفس المرض من بينها ابنة أختها، مؤكدة أنها لا ترى أى مسئول يأتون للقرية قائلة: «إحنا بلد أرياف محدش يعرف يشتكى لمين أو يروح لمين». والغريب أن أهالي القرية يقومون بغسل كل أغراضهم في مياه الترعة المختلطة بمياه الصرف الصحي. وأثناء جولتنا داخل القرية المنكوبة، تقابلنا مع منى عبدالرحمن التي أصيبت بسرطان الثدى، وتم استئصاله، وأصيبت ابنتها بنفس المرض.. وبعيون يغمرها الدمع يقول «عبدالمجيد»، إنه يعاني مرض «الرعاش» منذ أكثر من 10 سنوات، ومستشفى «زاوية الناعورة» بالقرية لا يسعف مريضاً، لان الأطباء ممارسون فقط، مضيفاً أنه يطالب المسئولين بالاهتمام بحالته الصحية. ويضيف زكريا عبدالمجيد، مزارع، أن المياه غير صالحة للشرب وسيارات كسح الطرنشات تلقى الكسح فى الترعة، ونرجع نروي الزرع مرة أخرى بمياه المجارى، ويضيف قائلاً: «بنلبس شيكارة في رأسنا علشان نعرف ننام من النموس، وإننا غلبنا شكاوي والكل ماشي بالرشوة». ومن جانبه، قال محروس على، إن زوجته أصيبت بالسرطان، وإنها تحتاج إلى 3 أشعات بمبلغ 750 جنيهاً، وأخرى ب250 و300 جنيه. وعلق على حاله قائلاً: «أنا راجل موظف غلبان محلتيش حاجة وبيتى على وشك السقوط». كما قال الحاج عبدالباقى محمد، إن ترعة الزاوية كانت مليئة بالأسماك معلقاً: «الدنيا كانت ماشية زى الفل بس بسبب الجماعة بتوع الكساحات خلوها مقلب زبالة.. الفلاح مطحون والدنيا ماشية وخلاص وقدمنا شكاوي كثيرة ولا حد بيسمع». وتحدثت معنا غالية موسى، فقالت: أصبت بسرطان الثدى، وتم استئصاله، وكل بيت فى القرية به شخص مصاب، لأن المياه غير صالحة للشرب، ومخلوطة بمياه الصرف، فلا يوجد صرف صحى والناس تتخلص من مخلفاتها بإلقائها فى الشوارع، ومع دخول الصيف تزداد الأمراض، وفى الشتاء الشوارع لا تجف. المحزن أن أهالي القرية رغم حالتهم المادية استطاعوا جمع مبلغ كبير من المال وصل إلي 2 مليون جنيه ليقيموا محطة صرف صحي إلا أنهم علموا أنهم يحتاجون ضعف ما جمعوه، وهو مبلغ فوق طاقة القرية بكاملها، وباتوا منتظرين رحمة المسئولين، ووضعهم علي خطة المحافظة، وقد تم عمل محطة للصرف لقرية «بدر» المجاورة لهم لأن بها أهالي بعض المسئولين. تركنا أهالي قرية الناعورة وتوجهنا للوحدة المحلية حاملين معنا هموم ومأساة قرية بكاملها، وعرضنا الأمر بكامله علي المهندسة سهام الخياط، رئيس الوحدة المحلية التي قالت، إن الدولة تسعى لحل مشكلة الصرف الصحى، لكن ذلك يتطلب عدة إجراءات أولها ضرورة توافر قطعة أرض صالحة لعمل صرف صحى، ويجب أن تكون هذه الأرض بعيدة عن المناطق السكنية بعشرة أمتار وغير زراعية وبعض المواصفات الفنية الأخرى، مثل أن تكون خالية من الانحدارات. وأضافت «سهام»، أن أهالى القرية قدموا طلباً لمحافظ المنوفية بتبرعهم لقطعة أرض، وقد تم استثناؤها لعمل شبكة صرف صحى عليها، وتمت معاينتها من قبل مكتب هندسى بتكلفة 10 آلاف جنيه وسيتم قريباً أخذ قرار بالتخصيص بعد انتهاء المعاينة، واستكمال كافة الإجراءات اللازمة لإدخال الصرف الصحى. وأشارت إلي أن الدولة لديها خطة للصرف الصحى خاصة بكافة المحافظات، ويتم البدء فى بعض القرى المؤهلة لعمل صرف صحى لها والتى يتوافر بها الشروط. وعلقت على غضب الأهالى من دخول الصرف لقرية «بدر» قائلة: إن الأهالى بالقرية قاموا بالتبرع بالأرض؛ رغبة منهم فى إدخال الصرف بشكل سريع، والأرض كانت مستوفاة لكل الشروط، فتم إدخال الصرف لها قبل قرية زاوية الناعورة. ورداً على قيام الكساحات بإلقاء الصرف داخل الترع قالت «سهام»، إنهم قاموا بتحرير عدة محاضر تجاه أصحاب الكساحات، وأكدت أن عملية الإلقاء قلت بكثير عما قبل نتيجة تلك المحاضر وما زالت شرطة المسطحات المائية والبيئة تلاحق هذه العربات. وأضافت أنه من المفترض أن يتم إلقاء الصرف بمحبس مخصص لذلك بقرية «كفر عشمة» التى تبعد عن القرية مسافة 3 كيلومترات لكن أصحاب الجرارات لا يلتزمون بهذا القرار. وأوضحت أنه ليس لديها إحصائيات بعدد المرضى المصابين بالسرطان أو التليف الكبدى، وفيروس «سى»؛ نتيجة تلوث المياه والطعام، فهى ليست الجهة المعنية بذلك، مؤكدة أن الوحدة المحلية قامت بالاشتراك مع حملة «لبلد خالية من الفيروس» التي قام بها بعض شباب القرية لحصر أعداد المصابين، وتوجيههم للعلاج لكن الإقبال كان ضعيفاً، حيث أقبل 1500 فرد من إجمالى 6 آلاف، مفسرة ذلك بعدم وعى الأهالى وقلة ثقافتهم، اعتقاداً منهم بأن ذلك سيكون مضراً لهم. وقالت عن المستشفيات والوحدات الصحية بالمركز، إنه من المفترض أن المستشفى المركزى مؤهل للتعامل مع كافة الحالات، مستكملة حديثها بأنه يتم السعى لعمل وحدة خاصة للكشف المبكر عن فيروس سى. وعقبت «سهام» عن وجود أسلاك الضغط المتوسط وسط الكتلة السكنية بأن هذه الأسلاك متواجدة منذ أكثر من 60 عاماً، مضيفة أن وقتها لم يكن هناك مبانٍ، لكن الأهالى هم من قاموا بالبناء المخالف، ومع ذلك تم عمل حصر بتلك الأماكن، معلقة أن إزالة تلك الأسلاك تتكلف ملايين الجنيهات، والدولة تنظر فى كل الطلبات المقدمة من الأهالى، وتقوم بالبدء بالأقل تكلفة والذى يخدم أكبر عدد من السكان. وأنهت حديثها عن الدعم الذى تحصل عليه القرية، قائلة إن قرية «زاوية الناعورة» مخصص لها 300 ألف جنيه، يتم إنفاقها على أعمدة الإنارة، وتغطية الترع، وشراء معدات النظافة، مضيفة أنها ستقدم على شراء عربة لجمع القمامة تكلفتها 240 ألف جنيه، مشيرة إلي أنه تم من قبل إنشاء كوبرى مطل على ترعة «النعناعة» لحل المشكلة المرورية عند مدخل القرية خاصة أيام الازدحام المرورى.