ما ظنك بمكتب تأمينات فى قرية تبعد مئات الكيلو مترات عن القاهرة؟.. أكيد ستعتقد أنه لن يكون سوى مجرد مكتب بسيط، موظفوه غلابة، يستحقون الصدقة.. وإذا كنت قد تصورت هذا، فأدعوك إلى قراءة هذه السطور التى ترصد يوميات مكتب تأمينات تمى الأمديد التابع لمحافظة الدقهلية لتكشف بنفسك أن هذا المكتب الصغير البعيد أشبه بمغارة على بابا، وأن بعض العاملين فيه يصبحون مليونيرات من المال العام، وعقوبتهم لن تزيد على الخروج للمعاش! الحكاية تبدأ من مكتب السنبلاوين للتأمينات التابع لمحافظة الدقهلية وتنتهى فى مكتب تمى الأمديد التابع لذات المحافظة .. وطرف الخيط فى الحكاية يعود إلى عام 2002، وذروتها كانت عام 2010 وهو العام الذى قررت فيه الحكومة صرف المعاشات بالفيزا كارد، وهو الإجراء الذى كان الهدف منه طبقاً لما أعلنته الحكومة وقتها، هو التسهيل عن أصحاب المعاشات، لكى يصرفوا معاشاتهم من أقرب مكتب بريد أو ماكينة صرف نقدية، وهو ما يريحهم من مشقة الذهاب إلى مكاتب التأمينات، ومشقة الوقوف فى طوابير لفترات طويلة. ورغم نبل الهدف إلا أن الحكومة ارتكبت خطأ تسبب فى فتح أبواب الفساد على مصراعيه.. فوقتها قررت الحكومة إصدار فيزا كارد لكل المسجلين فى كشوف التأمينات، دون تنقية تلك الكشوف من حالات الوفاة أو الحالات التى افتقدت شرطاً من شروط صرف المعاش، مثل حالات زواج الأرملة، أو بلوغ الابن القاصر لسن البلوغ، وهو ما يتبعه وقف صرف المعاش فورا.. وهكذا. المهم أدى إصدار فيزا كارد دون تنقية الكشوف إلى إصدار «فيزات» لآلاف المتوفين، وغيرهم ممن سقط عنهم الحق فى صرف معاش.. من الذى يعرف أسماء هؤلاء جميعا؟.. الإجابة: إنهم العاملون بمكاتب التأمينات، ومن هنا بدأ الفساد.. بعض موظفى التأمينات وجدوا فى أيديهم فيزات لأشخاص متوفين ومن غير مستحقى معاشات.. فماذا يفعلون بها؟.. المفروض أن يعيدوها مرة أخرى للوزارة مع إسقاط هذه الأسماء من كشوف التأمينات. وربما التزم بعض موظفى مكاتب التأمينات بهذا الإجراء، ولكن آخرون فعلوا شيئاً آخر، ومن هؤلاء مندوبة صرف بمكتب تأمينات تمى الأمديد فى الدقهلية - نحتفط باسمها -، التى احتفظت ب 170 فيزا كارد كانت قد صدرت لأشخاص المفروض ألا يصرفوا معاشات إما لوفاتهم أو لفقدهم أحد شروط صرف المعاش، وراحت مندوبة الصرف تصرف لنفسها مخصصات تلك الفيزات! ثم لم تكتف بذلك بل أضافت 602 اسم فى كشوف تسمى «كشوف السواقط» وهى كشوف تتضمن أسماء مستحقى المعاش الذين لم يستكملوا أوراقهم بعد، فيظلون يصرفون المعاشات عبر تلك الكشوف حتى استكمال أوراقهم وعندها يتم منحهم فيزا كارد يحصلون من خلالها على معاشاتهم. هل اكتفت مندوبة الصرف بذلك؟.. أبداً.. فى أحد أيام شهر يوليو من عام 2013، خالفت كل القواعد المعمول بها وتسلمت شيكات صرف تأمينات قيمتها مليون و200 ألف جنيه، رغم أن القانون ينص على أن أقصى مبلغ يصرف لمندوبى التأمينات يجب ألا يتجاوز 100 ألف جنيه، ولكن مندوبة الصرف بمساعدة بعض مسئولى مركز تأمينات السنبلاوين (الذى يتبعه مكتب تمى الأمديد) أخذت فى خلال 3 أيام 16 شيكاً بمبلغ مليون و400 ألف جنيه، والمفاجأة أنها بعد أن صرفت هذه الشيكات من البنك اختفت، وبعد 3 أيام من صرف المبلغ من البنك حرر زوجها محضراً باختفائها!.. وظلت مختفية لمدة 9 شهور حتى عثرت عليها الشرطة داخل توك توك فى السنبلاوين فى أبريل 2014!.. ولما ظهرت من جديد أعادها مسئولو الإدارة المركزية للشئون القانونية لعملها من جديد وكأن شئياً لم يكن، وقرروا تحميل ميزانية الوزارة بمبلغ المليون و400 ألف جنيه التى اختفت مع الشيكات التى حصلت عليها مندوبة الصرف! مين اللى اكتشف كل ما فعلته مندوبة الصرف؟.. الإجابة: ما اكتشف كل هذا هو سمير خالد مدير شئون العاملين بمكتب تأمينات تمى الأمديد، وأبلغ هذه المخالفات لوكيل وزارة التأمينات - وقتها - أحمد حجوش (حاليا مدير مناطق التأمينات فى مصر كلها) وعندها تم فتح تحقيقات موسعة، وجرد ملفات مكتب تمى الأمديد، فانكشف المستور كله. تبين من الجرد أن مندوبة الصرف صرفت منذ عام 2002 حتى 2013 حوالى 12 مليون جنيه لأشخاص إما متوفون أو لا يستحقون معاشات أساساً، وتبين أيضاً أنها كانت تصرف هذه المبالغ لنفسها! كما تبين أيضا أن 4 موظفين آخرين صرفوا مبالغ تراوحت بين 70 ألفاً و900 ألف جنيه لمن لا يستحقون صرف معاشات. وبدأت التأمينات تحقيقاتها.. وبعد حوالى عامين من التحقيقات فى الوزارة والنيابة الإدارية، وتحديداً فى يناير 2015 تم إحالة مدير مكتب تأمينات تمى الأمديد، ومدير الشئون المالية بالمكتب، ورئيس المراجعة بنفس المكتب، ورئيس السجلات المالية بمكتب تأمينات السنبلاوين، ومدير الشئون المالية بمكتب تأمينات السنبلاوين ثم مندوبة الصرف مكتب تمى الأمديد.. الستة تم إحالتهم للمحكمة التأديبية، وبعد أكثر من عام أى فى مايو الماضى أصدرت المحكمة حكمها، فعاقبت مدير مكتب تمى الأمديد ومدير الشئون المالية بالمكتب ورئيس الشئون المالية بمكتب السنبلاوين بغرامة تعادل 5 أضعاف الأجر الأساسى الذى كان يتقاضاه كل منهم عند انتهاء خدمته.. نعم عند انتهاء خدمته، لأنهم وقت صدور الحكم كانوا قد خرجوا للمعاش! أما رئيس المراجعة بمكتب تمى الأمديد فعاقبته المحكمة بالنقل إلى درجة أدنى، أما رئيس السجلات المالية بالسنبلاوين فكان جزاؤه الخصم 15 يوما من راتبه، وكانت المفاجأة أن عقوبة مندوبة الصرف هو الإحالة للمعاش.. وفقط! وتتوالى المفاجآت بتحميل الإدارة المركزية للشئون القانونية للتأمينات بالمنصورة مسئولية صرف مبالغ بدون وجه حق من خلال الفيزا كارد لأسر متوفين .. وكان من بينهم «خالد سمير» (الذى كشف سرقة الملايين من أموال التأمينات فى تمى الأمديد) وصدر قرار من الإدارة المركزية للشئون القانونية بوزارة التأمينات بوقفه عن العمل 3 شهور!.. ولما حاول الاستفسار عن سبب هذا الجزاء، جاءته الإجابة أنه مسئول عن صرف مبلغ 759 جنيهاً عبر الفيزا كارد عام 2011، لأسر أشخاص توفوا! يقول خالد سمير «تواصلت مع أسر الذين صرفوا هذه المبالغ، وتم استعادة هذا المبلغ منهم، وقدمت كل المستندات الدالة على ذلك ورغم ذلك أصر مسئولو التأمينات على وقفى عن العمل 3 شهور»! والسؤال الأخير: ما رأى الدكتورة غادة والى وزيرة التضامن الاجتماعى فيما جرى فى تأمينات تمى الأمديد؟