على مقربة من معابد ومقابر الفراعنة، المنحوتة فى جبل القرنة التاريخى غرب الأقصر، والتى تحوى جدرانها نقوشا ونصوصا تروى قصصا لأمهات عظيمات فى مصر القديمة، ضحين من أجل أبنائهن، وصَنَعنَ تاريخا مجيدا للمرأة المصرية منذ فجر التاريخ. لكن حادثة جرت بمركز القرنة، قُبَيلَ أيام، أخرجت ملكات ونبيلات وأمهات مصر القديمة اللاتى يرقدن فى هدوء داخل قبورهن، أخرجتهن من صمتهن، ليصرخن صرخة مدوية، ويسألن القاصى والدانى، هل حقا حدث هذا فى «القرنة»، التى يوثق كل معلم فيها كيف كانت الأم فى مصر القديمة، وهل حقاً أقدمت إحدى الأمهات على قتل طفلها للتخلص منه بعد أن اكتشفت أنه «معاق»، أم البلاغ الذى كشف تلك الواقعة، مجرد بلاغ انتقامى؟. وهل الأم التى تصنع الرجل، فيقول للجميع «أمى هى التى صنعتنى» هى أيضا التى قد تقتله أحيانا، فيقول أمى قتلتنى.. وهل الأم التى يستمد منها الطفل اسمى مبادئ حياته.. قد تكون قاتلة. الواقعة التى هزت أرجاء غرب الأقصر، بدأت ببلاغ تلقاه اللواء عصام الحملى مدير أمن الأقصر، من عجوز بأن حفيده «أ. ن» البالغ من العمر عاما واحدا فقط، تعرض للقتل على يد والدته، التى أرادت التخلص منه نتيجة معاناته من إعاقة ذهنية ومرض الصرع ويئسها من شفائه. حُرر المحضر، بمعرفة العميد أيمن الجيار، مأمور مركز شرطة القرنة، وبدأت نيابة مركز الأقصر، تحقيقاتها فى الواقعة بإشراف المستشار أحمد عبدالرحمن، المحامى العام لنيابات الأقصر، وأمرت بضبط وإحضار الأم المتهمة، وانتداب الطبيب الشرعى لتشريح جثة الطفل لمعرفة أسباب الوفاة. الأم التى وقفت أما مستجوبها، وفى عينيها حزن وأسى، وألم حسرة، ودموع، لم يعرف المشاهدون هل الحسرة والدموع لفقدان طفلها، أم الندم على قيامها بقتله، أم هى حيرة ما بعد القتل الرحيم، أم دموع غضب لجرأة الاتهام، الذى وجه إلى أم تمثل مصدر الحبّ والعطاء والحنان والتّضحية، وهى التى تعد أنهارا لا تنضب ولا تجفّ ولا تتعب، وهى تمنح بالكثير من العطف الذى لا ينتهى لأبنائها، الذين باتت تتهم اليوم بقتلهم، وإلى أن تنتهى التحقيقات، تبقى الحقيقة غائبة، فلم ترد الأم القاتلة على أسئلة المحقق، وفضلت الصمت وانتظار العقاب. وتبقى أمهات الفراعنة اللاتى يرقدن فى حضن جبل القرنة، غير مستريحات، إلى أن تظهر الحقيقة، فقد وصلت مكانة الأم لدى قدماء المصريين، إلى حد التقديس، وكان لها ربة خاصة هى الإلهة إيزيس ربة الأمومة، التى عبدها المصريون البطالمة والرومان، وكانت صاحبة مكانة متميزة بين آلهة مصر الفرعونية، بفضل أسطورة إيزيس وأوزوريس، فقد كانت إيزيس شقيقة الإله أوزوريس وزوجته، واستعادت جثته بعد أن قتله شقيقه «ست» ليستولى على عرشه، وبمساعدة من الآلهة «نفتيس» و«تحوت» أعادت إليه الحياة بعد رحيله إلى العالم الآخر، قامت بتربية وتنشئة ابنها «حورس» الذى أنجبته من زوجها الراحل أوزوريس فى مستنقعات دلتا مصر، وقد كان خيال عامة الشعب المصرى القديم مغرما بتأمل صورة الأم التى أخفت نفسها فى مستنقعات الدلتا لتقوم بتربية حورس طفلها، حتى إذا ما شب واشتد ساعده، صار قادرا على الانتقام من عمه «ست» قاتل أبيه، ويبقى السؤال: هل تبقى تلك الصورة التاريخية للأمهات المصريات فى أرض طيبة، أم حقا شوهها الأحفاد؟.