يقول «لويس جريس» عن صديقه الدكتور «مصطفى محمود»: إنه شخص لا ينسى، لأنه كان إنساناً بشوشاً وضاحكاً وصاحب قفشات، وأسلوب رشيق فى الكتابة والتعبير عما يريد أن يوصله إلى القارئ.. كان «مصطفى محمود» من «طنطا» والتحق بكلية الطب، وعمل وهو طالب فى فرقة لإحياء الأفراح، للإنفاق على دراسته، لدرجة أنه من كثرة إرهاقه أصيب بمرض «السل» واُحتجز فى عنبر 7 فى مصحة حلوان، وكان يرسل بعض قصصه لكى تنشر فى تلك الأيام إلى جريدة «النداء» لأنه كان يعيش على ما كان يكتبه من قصص، وخص «صباح الخير» ببعض هذه القصص عن طريق «حسن فؤاد» الذى كان يحب «مصطفى محمود» جداً، وذلك فى بداية الخمسينات، حيث كان يوجد 3 من طلبة كلية الطب ينشرون القصة القصيرة فى «روزاليوسف» و«صباح الخير»، وهم «يوسف إدريس» و«نوال السعداوى» ولكنهما كانا يتنقلان بين الجرائد والمجلات، لكن ثالثهم «مصطفى محمود» كان مواظباً على النشر فى «صباح الخير».. مضيفاً أن «مصطفى محمود» كان جاره أيضاً في السكن، حيث كان يسكن فى 3 شارع مراد بالدور الخامس، و«لويس» يسكن فى الشقة المجاورة له مع شقيقه «مفيد» وامتدت الصداقة بينهما منذ منتصف الخمسينات وحتى وفاة «مصطفى محمود» فى أكتوبر 2009. ويقول كاتبنا الكبير: إن «مصطفى محمود» أصبح مشرفاً على باب «اعترفوا لى» ويتذكر «لويس» زكائب الخطابات التي كانت تصل إليه من القراء، ويقول: كانت تفوق أى خطابات كانت تصل إلى «إحسان عبدالقدوس» أو «فتحى غانم» أو «يوسف السباعى» أو «أحمد بهاء الدين»، لأن «مصطفى محمود» كان يعطى الأمل للقراء أصحاب المشاكل، حتى مع زملائه عندما كان يدخل المجلة، كانوا يلتفون حوله ويشعرون بالبهجة لأنه كان يلقى القفشات والضحكات، فقد كان ساخراً بطبعه.. ويؤكد أن «مصطفى محمود» لم يكن ناصرياً أو يسارياً، وإذا كان لابد من تصنيفه أيديولوجياً. يقول «لويس»: كان وجودياً خلال فترة شبابه مثل «جان بول سارتر»، وكان يعشق المرأة بشكل جنونى، ودائماً كان يقول: يا «لويس» أنا ضعيف أمام المرأة، وأعتقد أنه لن يهزمنى فى الحياة سوى المرأة.. ويذكر فى 1960 كان «مصطفى محمود» يعمل حكيم باشا فى مستشفى الصدر بالعباسية براتب 40 جنيهاً، وفى ذات الوقت يشرف على باب «اعترفوا لى» في «صباح الخير» براتب 60 جنيهاً، ثم أصدر «عبدالناصر» قانون عدم الجمع بين وظيفتين، فذهب «مصطفى محمود» إلى «إحسان عبدالقدوس» وقال: يا «إحسان» أنا على استعداد أن أترك مهنة الطب وأتفرغ للعمل فى «صباح الخير» لو أعطيتنى ال «100» جنيه.. ووافق «إحسان» وعينه ب 100 جنيه.. ويؤكد لويس لو أن «مصطفى محمود» كان طلب أكثر من هذا المبلغ لكان وافق «إحسان» لأن «مصطفى محمود» كان مشهوراً ومحبوباً، وكانت عباراته سهلة ورشيقة، وقد كان إنساناً بسيطاً مثقفاً يخاف من المرأة ويعشقها فى ذات الوقت إلى حد الجنون. ويذكر صاحب الذكريات ذات يوم اتصلت به سيدة وحكت له مشكلتها، وأعجب بها من خلال الاتصال التليفونى، وطلب منها أن يراها، فرفضت لأنها لا تقابل أحداً. فقال: سأراكى من بعيد ولن أحدثك. فقالت: كيف؟ فقال: يوجد محطة أتوبيس فى شارع مراد أمام مقهى «استراند»، وكان فى آخر شارع مراد بعد محطة البنزين. المهم أنه أقنعها أن تأتى عند المحطة، واتفقا على أن ترتدى ملابس معينة حتى يعرفها، وكان لديه تليسكوب ينظر به من الدور الخامس، وبالفعل جاءت فى الموعد، ورآها من خلال التليسكوب، ووجدها شابة جميلة وأعجبته. ومن حينها ظل يترقب اتصالها به، إلى أن اتصلت. فقال: الحقيقة أنى كنت لا أفكر فى الارتباط بأحد، ولكننى أريد أن أتزوجك. فقالت: موافقة. وأعطته العنوان، وبالفعل ذهب وقابل والدها، وكان «مصطفى» فى عمر ال45 سنة، وتزوجها وأنجب منها «أدهم» و«أمل». ويقول لويس: ثم بدأ يزهقها ويقرفها فى حياتها، لأنه لم يكن يريد زوجة فى حياته، حتى لا يتقيد بالواجبات الزوجية والمسئولية الأسرية، وكان يريد أن يعيش حياته لنفسه ولكتاباته وقرائه، وتم الانفصال. ويضحك كاتبنا الكبير قائلاً: ذات يوم وجده «مصطفى» خارجاً من سوبر ماركت الكائن تحت العمارة التى كانا يسكنان فيها، ومعه زجاجة للشرب. فسأله: إيه يا «لويس» أنت هتشرب وتسكر، يبقى زعلان مع «سناء»؟ لويس: آه فيه الخلافات معها.. (هذا كان قبل الزواج). مصطفى: شوف يا «لويس» يا خويا، لما حاجة تضايقك أوعى تفكر أن تشرب وتسكر، وتقول هنسى. لويس: أعمل إيه يا «مصطفى» أنا متضايق جداً؟ مصطفى: واجه وقابلها وناقشها حول الزواج، أو الانفصال، لأن المواجهة فى حل المشاكل أفضل، واتخذ قرارك بعد المواجهة، ولا تشرب وتسكر وتعيش مع ذكرياتك. ويضحك «لويس» مرة أخرى ويقول: «مصطفى» كان بارعاً فى حل المشاكل، بل كان مصيبة كبرى، وكان لديه حلول جذرية لأى مشكلة تعرض عليه. وبالفعل تحدث «لويس» مع «سناء جميل» بناء على نصيحة «مصطفى» صديقه فى تلك الليلة، وبالفعل أنهيا كل الأمور بالاتفاق حول الزواج فى ذلك اللقاء. وعن تحوله من الفكر الوجودى إلى الإيمان.. يقول «لويس»: «مصطفى محمود» كان فكره وجودياً، وكان كتب مقالات عام 1956 بعنوان «الله والإنسان» فى «روزاليوسف» التى جمعها في كتاب بنفس العنوان، ولكن تمت مصادرته، ثم أعاد صياغته وحذف منها الفكر الإلحادى الذى كان به، التى أوجدت خلافاً شديداً بينه وبين الأزهر. ويؤكد «لويس» أن مصطفى محمود عندما بدأ يكتب «رحلتى من الشك إلى الإيمان» اهتم بالكتابات الدينية، وبدأت مقالاته عن العلم والإيمان، وقدم برنامجاً بنفس الاسم، وكان الشيخ «صالح كامل» ينتج له الحلقات، لأن «أدهم» نجل «مصطفى» بعد وفاة والده، كان يعتقد أن هذه الحلقات ملكاً لأبيه، فذهب ليطالب بها فقالوا له إنها ملك للشيخ «صالح كامل» لأنه هو الذى أنتجها. المهم أن «مصطفى محمود» فى كتاباته ورحلته إلى الإيمان كان يتحدث عن نفسه، وعن الرجل الذى لم يكن يؤمن، إلى الرجل الذى أصبح مؤمناً، وإلى الإنسان الذى استطاع أن يبنى وجوده فى الحياة على أساس متين من تفكيره، وعندما كان يشك فى وجود الله عز وجل، ويبدأ رحلته محاولاً إثبات العكس لكى يقود الإنسان فى حياته، فهو وضع نفسه نموذجاً للإنسان المتمرد الذي لا يؤمن بشىء.. ولكنه يقول لنفسه لا تتوقف هنا فقط.. ولا يكفى أنك لا تؤمن بل عليك أن تكمل الرحلة.. وهل بعد عدم إيمانك ورفضك لكل شىء ستظل هكذا لا تؤمن؟.. أم أن هناك حياة أخرى يجب أن تتمثل بها وتعيشها، وتحاول الوصول اليها لكى تصبح وأنت متشكك، بأن تتحول مؤمناً.. أو وأنت متشكك تجد طريقاً آخر تسلكه ليصل بك إلى الإيمان.. ويؤكد «لويس جريس» أن «مصطفى محمود» اجتهد ليصل إلى اليقين بالإيمان، بعد أن خاض الرحلة التى كان عليه أن يخوضها والمسيرة التى كان يجب أن يسير فيها، ليجد طريقاً آخر يصل به إلى بر الإيمان. ويقول لويس جريس: وتزوج «مصطفى محمود» الزواج الثانى له، ولكنه كان اشترط عليها شرطاً بأن يعيش كل واحد منهما فى شقته، على أن يلتقيا خميس وجمعة من كل أسبوع، ووافقت الزوجة الثانية على هذا الشرط، وتم الزواج. ويؤكد «لويس» أن «مصطفى محمود» كان صديقاً عزيزاً ووفياً، ويذكر أنه كان مسافراً إلى الصعيد، وقال: يا «مصطفى» سأسافر حتى أرى عائلتى. مصطفى: يا ريت آجى معاك يا «لويس». وبالفعل سافر معه إلى «أبوتيج» بأسيوط فى منزل شقيقه ثم ذهبا إلى «صطفة» لزيارة شقيقته، وسافرا إلى سوهاج لزيارة شقيقته الثانية، وكان «مصطفى» معه فى هذه التنقلات، ثم عادا، وكتب «مصطفى محمود» رواية «المستحيل» من خلال هذه الرحلة. وعن هجوم الدكتور «مصطفى محمود» على الرئيس «جمال عبدالناصر» وعلى سياساته وعلى عصره بالكامل.. يقول «لويس»: إن «مصطفى» كان ضد الفكر الناصرى والماركسى، وظهر هجومه فى إحدى المرات بعدما شاهد فيلم «محاكمات نورمبرج»، فكتب عن هذا الفيلم، وتم رسم صورة الصليب المعقوف الخاص بالنازية، ومعها صور ل«عبدالناصر» ومن هنا بدأ الهجوم عليه من بعض الناصريين والشيوعيين، ودار سجال بينه وبين «خالد محيى الدين» من خلال مقالات للرد على بعضهما، وكان «مصطفى» يميل إلى الرئيس «السادات»، وعندما كتب «رحلتى من الشك إلى اليقين» فهذا ما قربه من «السادات» الذى كان سعيداً جداً بلقب الرئيس المؤمن، وبشعار دولة العلم والإيمان، و«مصطفى محمود» كان سبباً فى هذه المسميات. وعن مشروعه الخيرى.. يقول صديقه «لويس»: إن «مصطفى محمود» كان يريد أن يسعد الأسر الفقيرة، ويخفف آلامهم، فأنشأ المسجد والمستشفى والعيادة لعلاج الفقراء من الناس، وأسماه مسجد «محمود» على اسم والده الذى كان يعتبره من أولياء الله الصالحين، لأنه كان زاهداً فى الدنيا، وكان رجلاً تقياً، ووضع جميع ما يملك فى بناء مشروعه الخيرى، حتى يصل العلاج إلى الفقراء بقروش قليلة، ولا يحرم إنسان مريض من العلاج. ويوماً ما سأله لويس: يا «درش» أنفقت كل أموالك على مشروع المسجد، فماذا عن أولادك؟ مصطفى: أنا علمت أولادى جيداً، وعليهم أن يشدوا حيلهم ويبنوا أنفسهم بأنفسهم، ولن أورثهم أموالاً ولا عقارات، بل ورثتهم علماً وفهماً للحياة. ويؤكد صاحب الذكريات أن الذى قربه من «مصطفى محمود» وتحويل هذا القرب واستمراره كعلاقة صداقة قوية ومتينة إلى أن توفاه الله، هى صراحته ووضوحه وبساطته، لأنه كان إنساناً غير معقد، وسريع الصراحة ولا يخفى شيئاً على الإطلاق، ولم يدخل فى صراعات شخصية أو خصومات، غير بعض المقالات التى رد فيها على «خالد محيى الدين» أحد الضباط الأحرار ورئيس حزب التجمع حينها، بسبب حكم «عبدالناصر» وسياساته التى كان «مصطفى محمود» يرفضها ويراها سلبية وأضرت بمصر وبحاضرها وبمستقبلها. ومع أن «مصطفى محمود» كان يخشى المرأة جداً، وقام بإبعاد زوجاته عنه، إلا أنه كان يقرب منه «أمل» ابنته وبشدة، وكان يتفاهم معها بدرجة عالية، مع أنها امرأة، فقد كان إنساناً واضحاً وبسيطاً، ويحب الفرفشة، وكان ملتزماً عملياً ودينياً، خاصة بعد أن تحول إلى الإيمان، وإلى الكتابات الدينية، ولكن قبل هذا التحول كان إنسان «هليهلى». ولهذا يقول زميله وجاره وصديقه: إنه لا يستطيع أن ينساه ويصفه بأنه الكاتب الوحيد الذى كان صادقاً فى كتاباته عن نفسه، وعن حياته. ويؤكد «لويس» أن «مصطفى محمود» صديقه لم يكتب مذكراته التى نشرت، وأن ما نشر وقيل إنها مذكراته، هى مقتطفات من مقالات كان «مصطفى» كتبها، لأن صديقه لم يكتب مذكراته قبل وفاته. ويشير «لويس» إلى أنه ظل فترة طويلة بعد وفاة صديقه يتصل بأبنائه، وكان يذهب إليهم عندما كانوا جميعاً يريدون إحياء ذكراه، خاصة أن الأولاد نضجوا وتحملوا مسئوليتهم، و«أمل» تزوجت وأنجبت ولدين ثم تم طلاقها وجاءت وعاشت مع والدها فى شقته بالدور ال 12 فى العمارة التى بجوار مسجد «محمود»، وحالياً تسكن فيها زوجته الأولى والدة «أدهم وأمل»، خاصة أن «أدهم» يسافر كثيراً، و«محمود» ابن «أمل» وحفيد «مصطفى محمود» يعمل فى إدارة المسجد والمستشفى، وقد أخبروا «لويس» أنه تزوج فى يناير 2016.