يقول «لويس جريس»: قامت 23 ثورة يوليو 1952، وجاء بيان الثورة الأول معبراً بصدق عن آمال وطموحات الشعب المصرى، الذى التف حولها خاصة أن الثوار أحسنوا اختيار اللواء «محمد نجيب» قائداً للثورة، وعندما ظهر بابتسامته وهيئته شعر المصريون بأنهم وجدوا أباً فى اللواء «نجيب». وأيدها الصحفيون أمثال «إحسان عبدالقدوس» و«مصطفى وعلى أمين» و«هيكل» و«أحمد أبوالفتح» الكاتب الوفدى الكبير، ويؤكد صاحب الذكريات أن أفضل الكتابات كانت ل«إحسان» فى «روزاليوسف»، و«أبوالفتح» فى جريدة «المصرى»، حيث أصر الكاتبان على تطبيق الديمقراطية، فضاق بهما الثوار وتم القبض على «إحسان» وهرب «أبو الفتح»، وتم إغلاق عدد كبير من الصحف، بعد أن ضاق الثوار بالنقد. ويقول «لويس جريس» إن «عبدالناصر» أرسل معاونيه إلى البرتغال لدى الديكتاتور «ساليزار» ونقل معاونوه شكل نظام الحكم هناك، حتى اسم الاتحاد الاشتراكى جاء من البرتغال، وأنشأ التنظيم الطليعى كالخلية الشيوعية، ووضع فيه أفراد تتجسس وتكتب التقارير فى بعضها، فأنهت على العمل السياسى الذى يفرز الكوادر السياسية، ولهذا لم تنتج يوليو الوزير السياسى بل أنهت عليه وفضلت أهل الثقة وأهل المحبة والإخوان والأحباب فى المناصب بديلاً عن اختيار الشخص المناسب لأن الديكتاتور عندما يتشكل لا يريد لأحد أن يعارضه أو يشاركه فى رأى أو قرار، ولهذا قضى «عبدالناصر» على كل من عارضه، فجاءت قراراته كارثية متسرعة، فلم تتم دراسة الوحدة مع سوريا دراسة حقيقية، ثم التورط فى حرب اليمن، وبالطبع جاءت كارثة الكوارث فى يونيه 1967 بسبب قراراته التى أدت إلى النكسة وكل هذه الأحداث تسيء إلى ثورة يوليو وإلى «عبدالناصر»، والذى عرفت القوى الكبرى كيف تتعامل معه، خاصة أمريكا التى أخذت تدفع «عبدالناصر» للسير فى طريق الزعامة والديكتاتورية، إلى أن اتجه إلى الاتحاد السوفيتى وليس لأمريكا فجاءت النكسة بتدبير محكم لكى يسقط «عبدالناصر» أمام الشعوب العربية، لأن الذى سقط فى يونية 1967 هو نظام «عبدالناصر» وليس الجيش المصرى الذى ظلم لأنه لم يحارب، ولهذا ف«عبدالناصر» يتحمل مسئولية الهزيمة كاملة، ونظامه سقط بكل سوءاته وخطاياه وجرائمه ولم تسقط مصر ولا جيشها. ومن الطبيعى... أن تنتقص الديكتاتورية من كل الإنجازات، لأن هذه الديكتاتورية عطلت الإنسان المصرى وقهرته، وجعلت الصفوة والمفكرين يهربون خارج مصر، بعد أن أحكم «عبدالناصر» قبضته على السلطة، ووضع من وضع فى السجون والمعتقلات، وكان لابد لمصر من ثورة أخرى مثل ثورة 25 يناير، التى أطاحت بسلبيات يوليو، وأسوأ ما فيها أنها جعلت عدداً من المسئولين فى مصر «يهزروا» ومصر لا تستحق الهزار، بسبب قلة الخبرة وعامل السن والطموح الزائد لدى «عبدالناصر»، مع أنه كان مرشحاً للزعامة ولكنه اتجه إلى الديكتاتورية. ولهذا يندهش «لويس» عندما يقول: إن الثوار تناقشوا داخل مجلس قيادة الثورة حول الديمقراطية والديكتاتورية، والمجلس انحاز بكامله نحو الديكتاتورية، و«عبدالناصر» هو الوحيد الذى انحاز إلى الديمقراطية، بل غضب وخرج من المجلس ثم أعادوه، ليتحول هو إلى الديكتاتور الأول، وخلال سنتين من قيام الثورة استطاع «عبدالناصر» التخلص من «محمد نجيب»، ومن القيادات التى كانت تعارضه، وأحكم قبضته على السلطة والحكم وعلى دولة كانت تمتلك مقومات النهضة والانطلاق أكثر من سنغافورة، ولكنها فشلت بالتضييق من القوى الكبرى، فاتجه «عبدالناصر» إلى النظام الاشتراكى، فتم دهس المواطن المصرى كما لم يدهس من قبل. ويقول صاحب الذكريات إن الحريات فى عهد عبدالناصر»، لم تكن متاحة، بل كانت القيود المفروضة كثيرة جداً، وربما كانت غير محسوسة بسبب حالة الغموض والتعتيم التى كانت سمة العصر، وكانت مفروضة فرضاً وبالقوة من خلال الرقابة والمنع والقمع والتجسس، ولم يكن فى قدرة أحد ولا استطاعته معرفة حقيقة ماذا يحدث؟ أو ما الذى دخل مصر من أموال، أو ماذا خرج منها؟ فلم يكن مسموحا بنشر أى شىء من هذا القبيل، وأيضاً كان ممنوعا منعاً باتاً نشر أى من قضايا الفساد الكبرى.. ويضحك «لويس» قائلاً: ومع هذا أطلقوا على عصر «عبدالناصر» بمنتهى البجاحة والوقاحة انه كان عصر الطهارة والنزاهة والشفافية، مع أن الفساد كان متفشياً بل وضعت بذرة الفساد فى عصر «عبدالناصر» ثم نمت وترعرعت وجنينا ثمارها بعد ذلك. وأهم بذور الفساد، هى بذرة أهل الثقة، ويقول كاتبنا الكبير آسفاً أنها كانت دعوة قام بها «فتحى غانم»، الذى كان قريباً من «على صبرى» حين كتب مقاله فى «روزاليوسف» بعنوان (أهل الثقة وأهل الكفاءة) وانتصر فى مقاله إلى أهل الثقة، فكرست ثورة يوليو هذا المبدأ الذى استمر حتى اليوم، فتدهورت مؤسسات الدولة، لأن كثيراً ما يكون صاحب الثقة غير كفء للمنصب الذى يتولاه، فزادت الفتن والدسائس والتهميش، وضعف الانتماء للوطن وحل محله الولاء للمسئول. وعن رأيه فى «عبدالناصر» يقول: «عبدالناصر» لعب دوراً مهماً فى حياة مصر والمنطقة العربية والأفريقية، ولكنه يؤخذ عليه أنه لم يكن منتبهاً بوجود قوى أخرى لن تمكنه من تحقيق أحلامه، ويذكر فى إبريل 1967 كان «لويس» فى اليونان وتقابل مع الرئيس اليونانى «اندرياس باباندريو»، وأجرى معه حوارا.. وقال «اندرياس»: أرجو أن تكتب أن مصر معرضة لضربة عسكرية مؤكدة هذا العام، لأنها أصبحت تمثل انطلاقة مهمة للدول النامية، ولهذا فالضربة مؤكدة، وقد تم نشر هذا الحوارفى 29 إبريل 1967، بل وجد من قال: إن الضربة ستكون يوم 5 يونيه تحديداً، ولكن «عبدالناصر» لم يكن يستمع لأحد، لأنه أصبح الديكتاتور الأول وأحكم قبضته على حكم البلاد ورقاب العباد. وجاء عصر السادات الذى بدأه «لويس جريس» هارباً إلى أمريكا منذ 1971 وحتى 1972 اعتقاداً منه أن «السادات» سينكل بالناصريين، وخاف من الاعتقال أو الحبس، وأسر بهذا السر إلى زوجته «سناء جميل» وأنه سوف يسافر وسيرسل إليها لتلحق به، لأنه لم يعد لهما مستقبلا فى مصر بعد مجىء «السادات» رئيساً، و«لويس» كان ضمن صفوف التنظيم الطليعى الخاص بالصحافة، بسبب أستاذه «أحمد بهاء الدين»، الذى سأل عن عدم انضمام «لويس» إلى الاتحاد الاشتراكى؟ فقيل له: لأنه عميل أمريكانى. فقال: لا «لويس» رجل وطنى.. وقال ل«لويس» سيتصل بك «حسن فؤاد» ووافق على ما يطلبه منك بالانضمام إلى الاتحاد الاشتراكى، وتحلف اليمين بالولاء ل«عبدالناصر». ثم بدأت فكرة العودة إلى مصر تراود «لويس جريس» بعد أن قام «السادات» بهدم السجن الحربى المرعب، وبإلغاء الرقابة، ولم يتخذ خطوات انتقامية تنكل بالناصريين، أو إجراءات تعسفية ضدهم، وبالفعل عاد «لويس» ولم يحدث ما يعكر صفو حياته، سواء كان مراقبة أو ملاحقة أو تضييق، وتنفس الشعب الحرية، وآمنوا على أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وانتهت الملاحقات والاعتقالات. وبدأ الجميع يتساءل متى المعركة؟ وكيف؟ وهل الرئيس بالفعل جادا فى دخول المعركة لتحرير سيناء؟، ولم يكن أحد يصدق أن الرئيس سيحارب، أو أن الدولة تستعد للحرب. ويقول كاتبنا الكبير: إن «السادات»، تعرض للكثير من الهجوم الظالم، والتجرؤ على شخصه وعلى سياساته حياً بحجة عدم الاستعداد للمعركة، أو أنه لا يسير على نهج «عبدالناصر»، وميتاً بحجة أنه فرط فى السلام.. ممن لم يحبونه، وهؤلاء بالطبع لن ينصفوه فى أى سياسة أو قرار، لأنهم يحبون «عبدالناصر» وولائهم مستمر له، وليس لمصر، ولهذا يكرهون «السادات» خاصة أنه قال فى بداية حكمه: إنه سيسير على خطوات «عبدالناصر»، وهو بالفعل سار عليها ولكن بأستيكة، ولهذا نجح وانتصر وأعاد الأرض وتنفس الشعب نسائم الحرية. واستطاع «السادات» أن يعبر بالأمة من الهزيمة إلى النصر، وحقق نصراً ما كان يمكن أن يتم لولا إيمانه الكامل بأنه قادر بالقوات المسلحة على هذا العبور، بعد أن درب الجيش جنوده واستعد استعداداً كاملاً للتضحية من أجل المعركة، و«السادات» قاد خطة الخداع الاستراتيجى، حيث كان «السادات» أبسط ضابط فى تنظيم الضباط الأحرار، بل كان أبسط رئيس جمهورية وأكثرهم تواضعاً. وينفى «لويس جريس».. أنه غضب عندما قال الرئيس «السادات: إنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، قائلاً: إنه يعلم أن المسيحيين مصريون يعيشون فى دولة مسلمة، ويضرب لنا المثل والقدوة فى هذا الأمر من خلال تعامل العالم الخارجى أو العربى مع المصريين، حيث يتعاملون مع المسلم والمسيحى كمصريين، ويؤكد أن نظرة الخارج لشعب مصر هى نظرة سليمة وجيدة لأننا جميعاً مصريون سواء كنا مسلمين أو مسيحيين، ولهذا «لويس» يعرف أن «السادات» لم يكن يغازل التيارات الدينية كما روج الكثيرون، لأنه بالفعل هو رئيس مسلم يرأس دولة مسلمة. وعن الفتن.. يقول صاحب الذكريات كانت متواجدة فى عصر «عبدالناصر» مع بداية تهميش المسيحيين، ولكن تم اشتعالها فى عهد «السادات» الذى اختزلها بأن بعض الجيران ألقوا على غسيل جيرانهم مياها «وسخة»، وحدثت مشاجرة، وحاول أن يهيفها ويبسطها وهى لم تكن كذلك، لأنها كانت فتنة طائفية بالفعل، ووجد من يغذيها ويشعللها، بعد أن تعاون «السادات» مع جماعة الإخوان وأخرجهم من السجون والمعتقلات، فقتلوه وكأنه ربى الذئب ليقتله، ولكنه لم يكن يتوقع أن يكون «عمر التلمسانى» مرشد جماعة الإخوان أحد المعاول التى تهدم، ولم يفكر أن جماعة الإخوان تسعى إلى تأجيج الفتن الطائفية فى مصر بعد أن حررهم من السجون وسمح لهم بحرية العمل العام والخاص، وألغى الملاحقات الأمنية بشأنهم وسمح لهم بحرية السفر والترحال.. ولكن هكذا هم الإخوان لا ينظرون إلا إلى مصالح جماعتهم الضيقة، ولا ينفذون إلا أوامر قاداتهم بمبدأ السمع والطاعة. وعن ظهور الأزمات الاقتصادية فى عصر «السادات» ويقول «لويس» مع أن الشعب كان يتحمل مثل هذه الأزمات فى عصر «عبدالناصر»، لكن بعد انتصار أكتوبر شعر الشعب المصرى بانتعاشة اقتصادية نتيجة تحول اقتصاد المعركة إلى التنمية، وأيضاً لازدياد الهجرة إلى دول الخليج، وتدفق التحويلات النقدية التى أسهمت فى الانتعاش الاقتصادى، وتطلع الشعب إلى المزيد من هذا الانتعاش، بعد معاناة طويلة من الحرمان الاقتصادى، وتطبيق سياسة شد الحزام، خرجت المظاهرات ترفع الشعارات وتهتف «سيد بيه.. يا سيد بيه.. كيلو اللحمة بقى بجنيه» وكانوا يقصدون «سيد مرعى» وزير الزراعة وصهر الرئيس «السادات». جاء استدعاء رئاسى إلى «لويس جريس» ليلة 4 سبتمبر 1981، وقالوا له يوجد اجتماع رئاسى مع رؤساء التحرير، وكان «السادات» أصدر قراره الشهير باعتقال أكثر من ألف من الشخصيات العامة المعارضة له، وتم الاجتماع فى منزل «السادات».. ثم جاء إليهم كشف بأسماء المعتقلين، وتم نشره فى الصحف والمجلات، ولكن البابا «شنودة» لم يتم اعتقاله واعتكف فى دير «وادى النطرون».. ومع هذا يرى «لويس جريس» أن «السادات» رجل لم يجد بمثله الزمان، من قبل ولا بعد، ويعتبره سياسىا من طراز فريد، وفى منتهى الذكاء الشخصى والاجتماعى، وداهية كبيرا فى عالم السياسة، بل يصفه بأنه من أعظم السياسيين فى العالم، لأنه كان يتمتع بالرؤية الجيدة ومتنبئ جيد لردود أفعال الغير، وصاحب فكر يسبق عصره، وبطل الحرب والسلام قولاً وفعلاً.. ولكن مع كل هذه الصفات، فى آخر عصره لم يكن مسيطراً على الأمور بسبب الفتن والدسائس والمؤامرات، من الداخل والخارج، وتم اغتياله بواسطة عناصر متطرفة من الجماعات الدينية.