يصف «لويس جريس» أستاذه «أحمد بهاء الدين» بأنه من الكتاب المرموقين، الذى تميزت بهم «روزاليوسف»، وكان أول ظهور قوى له عندما كان يكتب مقالاً ويذهب به إلى «روزاليوسف» ويسلمه هناك، مع أنه كان يكتب فى مجلة «فصول» قبل ذلك، ولفت نظر «فاطمة اليوسف» مالكة «روزاليوسف»، التى كان من عادتها الخروج يوم صدور المجلة إلى المقاهى والنوادى، والوقوف جانب بائعى الجرائد لترى بنفسها (كعمل استطلاع) كيف يقرأ الناس مجلة «روزاليوسف»، وهل يتأملون الغلاف أولاً، وكيف يقلبون صفحاتها؟، وعند من من كتابها يتوقفون؟.. فوجدت أنهم بعد النظر فى الغلاف، يتوقفون عند ما يكتبه «أحمد بهاء الدين»، حيث كان يكتب فى أولى صفحات «روزاليوسف». وبناء على هذا الاستطلاع.. فكرت فى أن هذا الكاتب يمكن اختطافه، كما سبق واختطفت مجلات وجرائد أخرى، بعض نجوم «روزاليوسف»، والملاحظ فى ذلك الوقت أن معظم الذين أثروا فى الصحافة المصرية كانوا من أبناء «روزاليوسف» مثل «على ومصطفى أمين» اللذين أنشآا «أخبار اليوم» وربما إنشاؤهما لها كان منشأة التجربة التى أصدرتها «روزاليوسف» اليومية، حيث كانت فى حجم أخبار اليوم كحجم وكعدد صفحات، وأيضاً «جلال الدين الحمامصى» الذى أنشأ مجلة «الأسبوع»، أو من الذين عملوا فى «روزاليوسف» مثل «عباس محمود العقاد» و«محمد التابعى» و«عبدالرحمن الشرقاوى» و«صلاح جاهين» وغيرهم الكثيرون. ويقول «لويس جريس» لكى تحتفظ «فاطمة اليوسف» ب «أحمد بهاء الدين» كاتباً لديها، قررت أن تصدر مجلة «صباح الخير» وتعينه رئيساً لتحريرها، فى أواخر 1955، إلى أن صدرت فى يناير 1956، وكتبت فى افتتاحيتها بنفسها أنها تريد أن تقول للقارئ فى مصر «صباح الخير»، و«فاطمة اليوسف» مع أنها لم تذهب إلى المدارس إلا أنها كانت تجيد التحدث بالفرنسية وبطلاقة وكانت تقضى مثل معظم الناس فى هذا العصر الإجازات فى فرنسا، وهناك كانت توجد مجلة بعنوان «بنجور». ويقول صاحب الذكريات، أثناء الإعداد لمجلة «صباح الخير» كان «لويس» يعمل فى «دار الهلال» ولكن اتفق صديقه «حسن فؤاد» معه على أن يأتى إليه يوم خميس ليقابله ب «أحمد بهاء الدين» الذى يقوم بالتجهيز والإعداد للمجلة الجديدة.. وبالفعل ترك «لويس» دار الهلال، وذهب إلى «حسن فؤاد» وقابله بالأستاذ «أحمد بهاء الدين» رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» التى كان يتم التجهيز لإصدارها، وكان كل يوم خميس يجهز موضوعا صحفيا ويعطيه ل «أحمد بهاء الدين».. وفى يوم وجد «لويس» موضوعا فى مجلة «لايف»، عن الذكرى العاشرة لإلقاء القنبلة النووية على «هيروشيما» و«نجازاكى»، وسهر عليه طوال الليل لترجمته، وذهب به إلى «أحمد بهاء الدين» فى «روزاليوسف» قائلاً: أستاذ «بهاء» وجدت موضوعا جيدا فى مجلة لايف وترجمته، وأعطاه له. نظر إليه «بهاء» وقال: اسمك إيه؟ فقال: «لويس جريس» «بهاء»: وبتشتغل فين؟ لويس: فى دار الهلال. بهاء: كم راتبك؟ لويس: 25 جنيهاً بهاء: يااااه مش هتوافق. لويس: مين اللى مش هتوافق؟ بهاء: فاطمة اليوسف. لويس: ليه؟ بهاء: 25 جنيها كثيرة. لويس: وبكام توافق يا أستاذ «بهاء»؟ بهاء: ب 15 جنيهاً. لويس: موافق. بهاء: تترك 25 جنيهاً راتبا وتحصل هنا على 15 جنيهاً؟ لويس: آه حتى أعمل مع حضرتك. ووافق «أحمد بهاء الدين» على أن يعمل معه «لويس» فى «صباح الخير». وقام «لويس جريس» بإنهاء إجراءات إخلاء طرفه من دار الهلال والتحق بمجلة «صباح الخير»، ومع أول راتب له فوجئ أن الراتب الشهرى 20 جنيهاً وفرح لأنه لم يكن 15 جنيهاً.. ومن هنا بدأ الكاتب الكبير رحلة عمله الحقيقية فى عالم الصحافة، بدءًا من شهر نوفمبر 1955 حيث كان «أحمد بهاء الدين» و«حسن فؤاد» يعدان التجهيزات الأولى لإصدار مجلة «صباح الخير». وأثناء الإعداد لمجلة «صباح الخير.. يقول كاتبنا الكبير كان «أحمد بهاء الدين» يذهب إلى كلية الآداب جامعة القاهرة، ويقول للطلبة نريد محررين للعمل فى «صباح الخير»، ومن يتوسم فى نفسه أن لديه المقدرة على العمل الصحفى فليأت إلى المجلة، وكان أكثر من يأتى إلى «روزاليوسف» بنات كلية الآداب، ليروا «إحسان عبدالقدوس» ومنهن من كن يأتين إلى «أحمد بهاء الدين» لكن حضور البنات بكثرة أصبح يمثل له ورطة لأنهن كن يشغلنه ويعطلنه عن العمل. فقال: شوف يا «لويس» طلبة كلية الآداب عاوزك تقرأ مواضيعهم جيداً، ومن تجده كاتب موضوعه بعناية وخط جيد أدخله لى، ومن تجده كاتب كلام فارغ «زحلقه» من أولها. وانتظم العمل فى «صباح الخير».. كما يقول «جريس»، وذات يوم كان يعرض عمله على «أحمد بهاء الدين»، ودخل عليهما «إحسان عبدالقدوس». وقال: يا «بهاء» أنت مسافر روسيا؟ بهاء: أه هسافر. إحسان: ولمن ستترك المجلة؟ بهاء: إلى «لويس جريس». إحسان: مين «لويس جريس» أنا لا أعرفه؟ وحينها شعر «لويس» أن مشادة يمكن أن تحدث بينهما، وبدأ يتسلل خارجاً من المكتب، وإذ ب «بهاء» يقول: «لويس» اجلس مكانك.. (وجلس لويس).. ويكمل «بهاء» هذا هو «لويس جريس» الجالس هناك، وأنا سأترك له المجلة أثناء سفرى، لأنه ملتزم ويأتى مبكراً ويغادر بعدما يطمئن على إصدار المجلة، وسوف يعرض عليك كل الموضوعات. ويقول «لويس»: بعد خروج «إحسان» من المكتب وجد «بهاء» يعطيه دوسيهات كثيرة، وقال له: هذه (5) أعداد للمجلة، ولا تخبر أحدا إنى تركت لك الأعداد، وأنت ستحتاج (4) أعداد فقط، والعدد الخامس لربما يتأخر أسبوع آخر، وطلب منه أن يعرض الأعداد فى مواعيدها على أستاذ «إحسان» والفيش والملزمة الأولى والثانية والثالثة تعرض عليه كل على حدا، وقال له إنه سيترك له الموضوع الأول ليكون حر التصرف فيه بعد أن يرى ما هو الحدث الأسبوعى الأهم والأبرز على الساحة ويكلف أحد المحررين بعمل موضوع له.. وبالفعل نفذ «لويس» هذه التوصيات بحذافيرها، وانتهى الشهر الذى سافر فيه «بهاء الدين» ثم عاد وتأكد أنه نفذ تعليماته، فزادت الثقة وتوطدت العلاقة الإنسانية والمهنية بينهما. ولهذا يعتبر كاتبنا الكبير أن «أحمد بهاء الدين»، أستاذه الأول لأن بدايات عمله الحقيقية فى عالم الصحافة، بدأت معه فى «صباح الخير».. وظهر «بهاء الدين» عملاقاً فى الصحافة المصرية، ودارت كتاباته حول الحرية والاستقلال والوطنية والعدالة الاجتماعية.. لأنه كان يؤمن بثورة يوليو وانحاز ل «عبدالناصر» مع أن هذا الانحياز لم يمنعه من انتقاد تجاوزات بعض رجال «عبدالناصر»، ورغم هذا لم يتعرض للاعتقال كما كان يحدث مع غيره، لأن «عبدالناصر» رفض اعتقاله قائلاً: (اتركوا بهاء لأن مخه كده).. وبعدما حقق «بهاء» نجاحاً مبهراً فى «صباح الخير» ظل «على ومصطفى أمين» يلحان عليه لكى يكتب فى «أخبار اليوم» حيث كانا يريدان جمهرة من الكتاب كرؤساء تحرير، وهما أول من وضعوا أكثر من رئيس تحرير لجريدة واحدة وهى «أخبار اليوم»، وكان من الصعب على «بهاء» أن ينتقل من أقصى اليسار فى «روزاليوسف»، إلى أقصى اليمين فى أخبار اليوم، ككاتب يسارى مطروح على الجماهير. ويؤكد صاحب الذكريات.. أنه و«أحمد بهاء الدين» كانا قريبين من بعضهما على المستوى الإنسانى والشخصى، حتى فى السن، ولهذا قال له «بهاء» إنه بالفعل يريد مبرراً أو محطة يقفز إليها أولاً حتى ينتقل من «روزاليوسف» إليها قبل أن يذهب إلى «على ومصطفى أمين»، لأنه كان يريد الكتابة فى «أخبار اليوم»، ولكنه كان لا يريد الذهاب أن يكون فجأة أو صادماً، ووجد ضالته فى جريدة كان «صلاح سالم» يريد إنشاءها باسم «الشعب»، وبالفعل تم هذا وعين «بهاء» رئيس تحرير هذه الجريدة، ولكنها استمرت عدة شهور ثم أغلقت، وانتقل «أحمد بهاء الدين» منها إلى «اخبار اليوم» وأصبح من ضمن رؤساء تحريرها عام 1959، وكان يكتب مقالا بعنوان «هذه الدنيا».. ثم عينه «عبدالناصر» رئيس تحرير «روزاليوسف» و«دار الهلال» و«دار التحرير»، ولم يحدث صدام بينه وبين «عبدالناصر» لأنه كان يعضد خطواته وسياساته، وعندما تولى هذه المسئولية عقد اجتماعا لجميع العاملين بمؤسسة «روزاليوسف» وبالطبع معها العاملون فى «صباح الخير»، فرأى زميلة جميلة تلفت الأنظار. فقال: مين دى يا «لويس»؟ لويس: هل لا تعرفها؟ بهاء: لا ما عرفهاش، ومالها عاملة كده؟ لويس: دى «عزيزة» التليفونست، جندتها المباحث واستأجروا لها شقة فى شارع «محمود بسيونى» لأن «ياسر عرفات» له شقة مقابلة لها، وكان يشيع أنه سينزل فى فندق «هيلتون» ولكنه لم يكن يبيت فى الفندق، فأحضروا لها هذه الشقة، وعضوية فى نادى الجزيرة لتعرف من يتقابل مع «عرفات» وتبلغهم. بهاء مندهشاً: يااااه عضوية نادى الجزيرة! لويس: مباحث أمن الدولة كما لها رجالها، أيضاً لها نساؤها. ويذكر «لويس جريس».. حدث خلاف فكرى من «أحمد بهاء الدين» مع سياسات «السادات» أكثر من مرة، وكانت بداية الخلاف عندما تولى «السادات» الحكم أصدر قراراً بنقل «أحمد بهاء الدين» إلى «روزاليوسف» من «دار الهلال»، وغضب «بهاء» لأنه لم يسئل فى هذا القرار ولم يؤخذ رأيه فيه، ولكنه نفذ وبعث رسالة بهذا المضمون إلى الرئيس «السادات»، ولكن الرئيس لم يأخذها على محمل الجد وتجاهلها ولم يعاقبه عليها لأنه كان يختلف عن «عبدالناصر».. مع أن «بهاء» نفسه وصف علاقته بالرئيس «السادات» قائلاً: إن الرئيس «السادات» صادقه مراراً، ونقله من مكانه كعقاب مرة واحدة، وفصله من عمله مرة واحدة أيضاً، وأوقفه عن الكتابة مرتين.. واختاره «السادات» رئيساً لتحرير الأهرام خلفاً للأستاذ «على أمين» ثم ظل «بهاء» يقدم الأعذار للرئيس «السادات» لينحيه عن الأهرام متعللاً بظروفه الصحية، إلى أن استجاب «السادات» إلى طلبه وقبل استقالته، ثم جاءت له فرصة بالعمل فى دولة الكويت رئيساً لتحرير مجلة «العربى»، واستمر فترة طويلة هناك.. ثم عاد كاتباً متفرغاً بالأهرام، بعاموده الصحفى المتميز، بعنوان «يوميات».. ولكن شاءت الأقدار أن يصاب «بهاء» بجلطة فى المخ قبل وفاته بحوالى خمس سنوات. وفى تلك الأيام كان «لويس» صديقاً للسفير السعودى بالقاهرة، وجاء ليخبره أن الملك «سلمان» خادم الحرمين الشريفين حالياً، الذى كان أميراً ل «الرياض» أرسل إليه طالباً منه أن يقوم بزيارة «أحمد بهاء الدين» ويقول له باسم الأمير «سلمان»: إذا كان يبغى العلاج فى أى مكان فى العالم سيخصص له طائرة خاصة لهذا الأمر، وسوف يتحمل كافة تكاليف العلاج الخاصة به.. وطلب السفير السعودى من «لويس» أن يصطحبه إلى منزل «بهاء». وعلى الفور اتصل «لويس» بالسيدة حرم الأستاذ «بهاء» وقال: إن الأمير «سلمان» يريد أن يبلغ رسالة إلى الأستاذ «بهاء» عن طريق السفير السعودى، وسمحت حرم الأستاذ «بهاء» لهما بتلك الزيارة فى منزله الكائن 11 شارع «هارون» بالدقى فى الدور الخامس، وعندما دخلا غرفة الأستاذ «بهاء» يقول «لويس» عندما رآه الأستاذ «بهاء» ابتسم قليلاً، وشعر حينها بأنه من الممكن أن يكون تذكره ولكنه لم يستطع الكلام. وقال السفير السعودى: أستاذ بهاء سمو الأمير «سلمان» يبلغك تحياته ويقول لك إذا كنت تحتاج إلى العلاج أو السفر فى الخارج لأى دولة فى العالم، فإنه يضع طائرته الخاصة تحت تصرفك، وجميع تكاليف رحلة العلاج ستكون على حسابه الخاص. فنظر الأستاذ بهاء إلى زوجته فتحدثت قائلة: نشكر سمو الأمير «سلمان» على كرمه، ونحب نبلغه أن الحكومة المصرية قائمة بكل واجباتها تجاه «أحمد»، وأنها لا تبخل بالإنفاق على علاجه.. ويقول «لويس» وبالفعل هذا ما كان يحدث من الحكومة المصرية تجاه الأستاذ أحمد بهاء الدين.