سيكون يوم الخميس المقبل 23 يونيو (حزيران) موعدًا حاسمًا يقرر أمورًا مهمة ومصيرية على أكثر من صعيد، لن تقتصر مثلاً على ما إذا كانت بريطانيا ستخرج أو تبقى في الاتحاد الأوروبي، وما إذا كان الاتحاد سيستمر أو سيبدأ بالانفراط تدريجيًا، واستطرادًا ما إذا كانت المملكة المتحدة ستبقى متحدة في المستقبل، وأيضًا ما إذا كان ديفيد كاميرون سيبقى في رئاسة الحكومة، خصوصًا إذا اختار البريطانيون الخروج خلافًا لمراهناته على بقاء بريطانيا عضوًا قويًا، ولو بشروطه الخاصة، في الاتحاد الأوروبي. عندما وعد كاميرون في 23 يناير (كانون الثاني) عام 2013، بأنه إذا أُعيد انتخابه رئيسًا للوزراء في عام 2015، فسيجري استفتاءً حول بقاء أو انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لم يكن يتصور أنه قبل ستة أيام من موعد الاستفتاء، يوم الخميس المقبل، ستصل نسبة الذين يريدون الانفصال إلى 54 في المائة، بعدما ظلّت تراوح على مدى شهور مضت في حدود 35 إلى 38 في المائة. مع الارتفاع المثير لنسبة مؤيدي الخروج، لم يتردد باراك أوباما في القول عندما زار بريطانيا أخيرًا: «إنه لا معنى لأوروبا موحدة إذا لم تكن المملكة المتحدة في القلب منها»، وإذا كانت كلماته أثارت اعتراض الذين يؤيدون الانسحاب، غير أنه كان واضحًا أن تعمّده تسمية المملكة المتحدة بدلاً من بريطانيا، هدفه الإيحاء ضمنًا بأن انهيار الاتحاد الأوروبي سيفتح الباب عاجلاً على تفكك المملكة المتحدة، التي من المعروف أنها تتألف من أربعة أضلع، وهي بريطانيا واسكوتلندا وآيرلندا وبلاد الغال. ليس خافيًا أن خروج بريطانيا سيشجع دولاً أوروبية أخرى على إجراء استطلاعات مشابهة، كما سيشجع على تفكك المملكة المتحدة، فها هي رئيسة وزراء اسكوتلندا نيكولا ستورجن تعلن صراحة أن خروج بريطانيا سيعطي الحركة القومية الاسكوتلندية حافزًا للانفصال، ومعروف أن اسكوتلندا وصلت إلى بوابة الانفصال في الاستفتاء الذي جرى في 18 سبتمبر (أيلول) عام 2015، وهو ما هدد بريطانيا يومها بأن تخسر ثلث أراضيها، وكل هذا قد يشجع بالتالي آيرلندا وبلاد الغال على الانفصال، بما قد يجعل المملكة المتحدة تنفرط قبل انفراط الاتحاد بين الدول الأوروبية! صحيح أن الاتحاد الأوروبي الذي بات يضم اليوم 28 دولة، حاول في الأساس أن يكون له بصمة مؤثرة وشريكة في القرار الدولي، وذلك منذ قيام الاتحاد الذي كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول قد دعا إليه من منطلق السعي إلى قيام قوة ثالثة وازنة ومهمة في القرار الدولي، تعمل على خلق نوع من التوازن الدولي عبر إسقاط نظرية «الاستقطاب الثنائي» التي خلقت في حينه نوعًا من الهيمنة الأميركية والروسية على اتجاهات القرار الدولي، لكن الصحيح أن الاتحاد لم يتمكن فعلاً من فرض توازن من هذا النوع. وزيرة خارجية السويد مارغوت ولستروم لا تتردد في القول إن خروج بريطانيا قد يدفع نحو سلسلة من الاستفتاءات المشابهة لتحقيق بعض الطلبات الاستثنائية من عدد آخر من أعضاء الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يؤدي إلى تفككه، وهي ترى أن الأذى سيقع في الحالين، سواء بقيت بريطانيا أو انسحبت، لأن انسحابها سيشجع آخرين على العمل للانسحاب، وإن بقيت فإن بقاءها سيشجع آخرين على مفاوضة الاتحاد للحصول على شروط تفضيلية، على الأقل مثل الشروط التي تحصل عليها بريطانيا أصلاً، ومنها الاحتفاظ بعملتها الوطنية، وعدم قبول إلغاء الحدود، والتمسك بالتأشيرة خارج سياق عملية «الشينغن»! الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس شتولنبرغ أيضًا يحذّر من أن خروج بريطانيا سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار، وخصوصًا في هذه المرحلة الدقيقة التي تشهد كثيرًا من التهديدات، وأن دول الاتحاد ليست في حاجة إلى مزيد من عدم الاستقرار، بل إلى تعميق التعاون، سواء في وجه الأزمات الاقتصادية التي هددت وتهدد دولاً عدة في الاتحاد، وسواء بالنسبة إلى وتيرة النشاط الإرهابي الذي ضرب أخيرًا فرنسا وبلجيكا، أضف إلى ذلك أزمة اللاجئين التي تكاد تعمق الخلافات بين ألمانيا ودول أخرى مثل النمسا. ومنذ نشوئه في 18 أبريل (نيسان) من عام 1951 واجه الاتحاد الأوروبي كثيرًا من المشكلات والأزمات التي قلّصت من طموحاته الأولى بأن يشكّل عملاقًا اقتصاديًا في وجه أميركا والصين مثلاً، ولكنه بات اليوم يعيش أزمة اقتصادية كبيرة فالقصة لا تقتصر على اليونان لأن شبح أزمات مشابهة نسبيًا يلوح في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وفرنسا وقبرص، ومنذ عام 2008، تزايدت نسبة الركود الاقتصادي وارتفع معدل البطالة، وصعدت أسهم أحزاب اليمين المطالبة بالخروج من الاتحاد. ولم يكن غريبًا أن تكتب «واشنطن بوست» قبل أيام أن الأزمات المتلاحقة التي شهدتها دول الاتحاد منذ بداية العام الماضي، بما فيها الهجمات الإرهابية والأزمة الاقتصادية ومشكلة اللاجئين جعلت أوروبا في حال يُرثى لها، مما يزيد التوقعات باقتراب عملية تفكك الاتحاد وانهياره! المشكلة أن المواطن البريطاني يقع منذ أسابيع وسط تحليلات متناقضة تمامًا بين معارضي الانفصال ومؤيديه؛ ففي حين يقول وزير الخزانة جورج أوزبورن إن الخروج من الاتحاد سيؤدي إلى تراجع الناتج المحلي بنسبة ستة في المائة خلال عامين، وإلى زيادة التضخم وارتفاع قطاع الإسكان بنسبة 10 إلى 18 في المائة، وإن أرقامه هذه جاءت نتيجة دراسة علمية استمرت 3 أعوام، وركّزت على ثلاثة عوامل رئيسية وهي: تأثير الخروج على دور بريطانيا في دورة التجارة العالمية، وتأثير حالة من عدم اليقين على الوضع الاقتصادي البريطاني، والتقلبات المحتملة في أسواق المال! وإذا كان محافظ بنك إنجلترا مارك كارني قد حذّر من مخاطر الانفصال وما سيعقبه من الركود، فإن وزير العمل المستقيل إيان دنكان سميث العضو الناشط في حملة «صوّت للخروج» يعارض حجج مؤيدي البقاء، نافيًا أن يؤدي الأمر إلى صدمة، بل إنه سيوّفر مليون وظيفة جديدة للبريطانيين! لكن مسؤولين من حزب العمال حذروا من أن الخروج قد يكلف البريطانيين 525 ألف وظيفة، وأصدروا بيانًا يقول إن الخروج سيحدث صدمة خطرة للغاية، من شأنها أن تسبب ثقبًا أسود بقيمة 40 مليار إسترليني من المالية العامة. والسؤال: ماذا سيكون موقف ديفيد كاميرون الذي يضع كل ثقله وسمعته السياسية لصالح التصويت للبقاء في الاتحاد، إذا جاءت النتيجة لمصلحة الانفصال بما سيشكّل ضمنًا استفتاء على بقائه مع حكومته؟ خبراء في الاستراتيجيات الاقتصادية يجمعون أنه على صعيد الجيوبوليتيك سترى قوى عظمى، مثل أميركا والصين، أن خروج بريطانيا يضعف أوروبا سياسيًا ويضعها في الصف الخلفي من الردهة الدولية، وهو ما سيدفع إلى إعادة تمركز استراتيجي، خصوصًا أنه ليس في وسع فرنساوألمانيا تعويض الدور البريطاني في التوازن الاستراتيجي الدولي! نلا عن صحيفة الشر الأوسط