تناولنا فى الأيام السابقة وقفة متأنية مع الإنسان للتعرف عليه، وعلى مكوناته المختلفة التى جعلت منه هذا الإنسان المتخلف فى عمارة الأرض وعبادة الله، والذى حمل الأمانة دون غيره من الكائنات، وهو تكريم وتشريف يأتى فى محكم آياته: (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا) «الإسراء/ 70» وقد استدل بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، لأمور التكليف الذى حُمل للإنسان، والواجبات مع ضعفه، فكان الجهاد النفسى الذى حسب لآدم وذريته. وأذكر فى هذا المقام حقيقة حقوق العباد وواجباتهم والتى مصدرها المشرع عز وجل وتشريعه الحق والعدل المطلق للعباد دون محاباة أو تحامل: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) «الحديد/25». وتقرير الحقوق من قبل الحكمة الإلهية والعدالة الربانية، ليس معناه تخدير المشاعر وتبرير الاستسلام والخضوع والتواكل، بل إنه يرفع مرتبة حقوق الإنسان، إذ يجعلها مستمدة من العقيدة، ويجعل الإيمان حارساً عليها ودافعاً إلى الحفاظ والنضال من أجلها. وقد عنى الأصوليون بتقسيم الحق فى «باب المحكوم فيه وهو فعل المكلف الذى يتعلق به خطاب الشارع، وقد قسموه إلى قسمين رئيسيين: حق الله وهو: ما يتعلق به النفع العام لجميع العالم فلا يختص به واحد دون الآخر، وإضافته إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه». وحق العبد وهو يتعلق به مصلحة خاصة، وبذلك يكون الاصطلاحان الأصوليان تعبيراً عن حق الجماعة وحق الفرد، وما هو حق لأحد الطرفين هو واجب على الآخر، ويكون تقرير حق الله وحق العبد هو تقرير لحقوق الفرد وحقوق الجماعة، أو تقرير للحقوق والواجبات. وقد قسم ابن تيمية الحدود والحقوق قسمين: أولها: «الحدود والحقوق التى ليست لقوم معينين، بل منعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم وكلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله، وحقوق الله مثل حد قطاع الطرق والسراق والزناة ونحوهم، ومثل الحكم فى الأموال السلطانية والوقف والوصايا التى ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات. ولهذا قال على بن أبى طالب -رضى الله عنه-: لابد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة فقد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: تقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء. وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به، وكذلك تقام الشهادة فيه من غير دعوى أحد به...» «السياسة الشرعية ص32-33». أما بالنسبة للقسم الثانى من الحدود والحقوق التى لآدمى معين فيقول الله تعالى: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا تكلف نفس إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا» وللإمام الشاطبى استقراء بصير بتعدد الأحكام الشرعية فى المجالات المختلفة والمتباينة نوجزها فى مقاصد الشريعة فيما لا تتعدى ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، الثانى أن تكون حاجية. والثالث أنها تحسينية. أما الضرورية فمعناها أنها لابد منها فى قيام مصالح الدين والدنيا، والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، الثانى ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع. ومجموع الضروريات خمسة: وهى حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وقد شرع الله لكل واحد منها أحكاماً لصيانتها واستمرارها. وللحديث بقية.