لم يعرف التاريخ جدلا ممتدا مثلما المثار منذ أكثر من مائة عام حول قبر أمنا حواء على الرغم من أن مدينة جدة السعودية اشتقت اسمها من وجود قبر حواء أم البشر فيها، ففى المنطقة الفاصلة بين حى العمارية وهى البغدادية توجد مقبرة «أمنا حواء».. أقدم مقبرة فى جدة وإحدى المقابر التى تثير الكثير من الجدل حولها من خلال ما كتبه عنها المؤرخون وما ذهب إليه بعضهم مجتهداً بأنها المقبرة التى تحمل رفاة أم البشر (حواء).. والتى دفنت فى هذه المقبرة ومنها أخذت اسمها؟ المقبرة الآن تعد إحدى مقابر جدة.. بل أقدمها على الاطلاق وكانت تقع عند نهاية سور جدة القديمة وعندما أزيل السور بقيت المقبرة على حالها فترة من الزمن حيث كانت مبنية بالحجر المنقبى الذى بنيت به بيوت جدة القديمة وقد جرى مؤخراً تجديد سور المقبرة وتغطيته بالرخام من الخارج وعمل مماشى داخل المقبرة بعيداً عن القبور حتى يسير عليها الناس عند قيامهم بدفن أحد الموتى. وذكر الطبرى أيضاً أن آدم عليه السلام عندما هبط فى الهند جاء فى طلبها حتى اجتمعا.. فازدلفت إليه حواء مسمى المكان (مزدلفة)، وتعارفا بعرفات فسمى المكان (عرفات)، وهذا ما ذكره أيضاً ابن جبير ومن قبله الهمدانى. وذكر بعض المؤرخين ان موضع مقبرة أمنا حواء الحالى كان هيكلاً عبدته قضاعة قبل الإسلام، وأقيم القبر مكانه بعد الإسلام وذكر ابن جبير فى القرن السادس الهجرى خلال زيارته إلى جدة أنه رأى بها موضعاً فيه قبة مشيّدة قديمة يذكر انه كان منزلاً لحواء أم البشر.. كما أشار ابن بطوطة إلى وجود القبة خلال رحلته إلى جدة فى القرن السابع الهجري.. كما ذكر آثاراً تدل على قدمها. وذهب المؤرخون الى ان آدم عندما أهبط إلى الأرض فى الهند لم يجد حواء بجواره فجرى الدمع من عينيه، وانبتت دموعه الزنجبيل والفلفل والقرنفل.. وكانت عصفورة الجنة تنقل الأخبار بين آدم وحواء حتى التقيا عند جبل عرفات وذلك لأن أمنا حواء قد هبطت فى (جدة) وحسب قول المؤرخ اسحاق فإن سيدنا آدم عمر طويلاً ثم وافاه الأجل فى عرفات وأنه لم يهبط فى (سرنديل).. بل ان أكثر الأقوال ان آدم وحواء عاشا زمناً طويلاً فى وادى مكة وان الحق سبحانه وتعالى قد أنزل لهما بيتاً من الجنة ولكنه من أديم الأرض.. وكانا يتعبدان فيه وكانا كل سنة يأتيان إلى البيت المعمور ويطوفان حوله ويعودان إلى عرفات. وأكد بعض المؤرخين ان حواء عمرت طويلاً بعد سيدنا آدم وأمنا حواء هى التى دفنت هابيل وقابيل والنبى (شيت) بالقرب من جدة ولا يعلم «الغيب إلاّ الله.» ويوضح الأستاذ محمد يوسف طرابلسى مؤلف كتاب (جدة حكاية مدنية) ان جميع المراجع والكتب التى استعان بها لمعرفة تاريخ جدة وتاريخ هذا المقبرة قد أكدت جميعها على اتفاق المؤرخين على ان حواء أهبطت بأمر الله عز وجل فى جدة ولكنهم اختلفوا حول مكان دفنها.. هل القبر الذى يحمل اسم مقبرة أمنا حواء فى جدة قد احتوى رفاتها أم لا.. ولكن هذا لا يمكن ان ينفى قدم هذه المقبرة.. حيث وصفها عدد من المؤرخين والرحالة فى كتبهم وبعض هذه الكتب يعود للقرن التاسع الهجرى. لقد أدى الاعتقاد بأن ذلك القبر الذى كانت عليه قبة هو قبر أمنا حواء إلى قيام العديد من الأهالى والحجاج بارتياد الموقع للزيارة والتبرك، حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجرى.. وعندما رأى الملك عبدالعزيز مؤسس السعودية ذلك الجهل و»الخزعبلات» التى تتعارض مع الدين.. والتى أصبح البسطاء من الناس يقومون بها دون وعى وفهم لمخالفتها للدين الإسلامى والشرع العظيم الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أمر عندها الملك عبدالعزيز بهدم وإزالة ذلك القبر والقبة لتصحيح معتقدات الناس وتخليصها من البدع والجهل الذى يمارسه البسطاء آنذاك.. ولكن السور الخارجى المحيط بالمقبرة ظل باقياً إلى وقت قريب، حيث تم تجديد السور ومازالت المقبرة قائمة ومستمرة فى استقبال ودفن الموتى حتى اليوم. وعثر أهالى مدينة «جدة» فى السنوات الاخيرة على مخطوط فى جامعة مانشستر ببريطانيا، اسمه «السلاح والعدة فى تاريخ مدينة جدة»، ونُشِرَ فى عام 1010 هجرية، أى قبل نحو 427 عامًا. ويؤكد المخطوط، أن مقبرة حواء فى المنطقة الفاصلة بين حى العمارية، وهى أقدم مقبرة فى العالم. ويثير الطلب المتكرر لهيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر السعودية بإزالة أو تسوير عدد من المواقع التاريخية ذات الصبغة الدينية فى مكةالمكرمةوجدة، جدلا كبيرا فى أوساط المثقفين والشرعيين.. ومن بين المواقع المطلوب إزالتها «مقبرة أمنا حواء» التى يعتقد أن بها قبر أمنا حواء عليها السلام فى منطقة جدة القديمة، إضافة إلى تسوير بعض الجهات التى يسهل منها الصعود إلى جبل ثور وجبل الرحمة وجبل النور. إلا أن هذه الطلبات تواجه دائما بالرفض الشديد من قبل بعض المثقفين المهتمين، وأثبتت دراسة تاريخية حديثه أجراها أستاذ التاريخ القديم بالرياض، الدكتور عبدالله الحميد يونس أن «حواء» أم البشر مدفونة بمدينة جدة، وبالتحديد بمنطقة طريق الساحل القريبة من ساحل البحر الأحمر، وإنه قد توصل إلى هذا الإثبات عن طريق الاستعانة بكتب الرحالة العرب واليونانيين والسريان القدامى الذين أجمعوا على كون حواء قد دفنت فى مدينة جدة تحت سور المدينة القديم. وأضاف «الحميد»، إنه توصل إلى هذه النتيجة بعد دراسة مضنية فى سيرة الرحالة العربى ابن جبير الذى يعد أول من حدد موضع دفن حواء وتوقع بأن يكون بمنطقة طريق الساحل بمدينة جدة بالسعودية. وكان الأهالى والحجاج يرتادون الموقع للزيارة والتبرك حتى حوالى منتصف القرن 14ه حين أزيلت عام 1344ه قبة القبر تمهيدا لتحرير العقول من البدع والأوهام التى كانت تسود المجتمع. ويجسد هذا الوعى الآن استنكار العديد من السكان المجاورين «لمقبرة حواء» لمشاهد سيدات ورجال من الحجاج الإندونيسيين الذين يحرصون على زيارة المقبرة والتقاط صور تذكارية هناك. ووصف الرحالة التركى (أوليا جلبى) فى رحلته الحجازية عام (1082) مقبرة أمنا حواء، بقبة صغيرة على المكان الذى ترقد فيه أمنا حواء، والقبر مغطى بالحرير الأخضر وحوله مغطى بالحصا ناحية رأسها وكذا ناحية قدميها. كما وصف الرحالة المصرى محمد لبيب البتنونى القبر فى كتابه «الرحلة الحجازية» الذى كتبه بعد رحلة الخديوى عباس حلمى لأداء فريضة الحج سنة 1327ه/ 1909م: «فى مدافن المسلمين بجدة قبر طويل يبلغ 150 متراً على ارتفاع متر وعرض ثلاثة أمتار، وهو ما يسمونه قبر أمنا حواء، وقد أقيمت عليه معالم تبين مكان الرأس والقدمين.» ووفقا للمؤرخ المكى محمد طاهر الكردى يرجع تاريخ تضليل الحجاج والاحتيال عليهم لزمن سابق، إذ يذكر فى كتابه « التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم»، أن المقبرة كانت ذات سور عال، وكانت فترة الحج قديماً فترة خصبة لزيارتها من قبل الحجاج الذين يفدون إليها بعد مناسك الحج للتبرك بها، ظناً منهم أن أم البشر مدفونة بها، واستغل ذلك المحتالون ممن كانوا يبيعونهم بعضاً من تراب المقبرة، لأخذه معهم إلى بلادهم، فهو يحوى بركة حواء، أم البشر. وفى المقابل، يعتقد الكاتب محمد صادق دياب أن الأمر لا يعدو كونه أسطورة شعبية تناقلها العامة من الناس، طبقا لما أورده فى كتابه «جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية»، ليبقى بذلك اقدم مقبرة فى التاريخ مثار جدلا واسعا ليس فقط على صعيد المؤرخين وانما ايضا بين المثقفين السعوديين الذين يروون ان المملكة ليست فقط الحرمين وإنما أيضا هى عبارة عن «كنز مفتوح» للسياحة الدينية ينبغى استثماره، فى الوقت الذى تتحفظ فيه هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على مصطلح «السياحة الدينية» للأماكن الاثرية خشية من ممارسة معتقدات مخالفة للشرع، ويبقى هذا الخلاف قائما لحين زيادة الوعى بين مرتادى هذه الأماكن وبخاصة بين الحجاج والمعتمرين القادمين من أطراف المعمورة.