خمرى اللون.. شاحب الوجه.. ملابسه بالية.. ممزقة.. قصيرة لا تستر كل جسده، أظافره طويلة جداً ترقد تحتها الميكروبات.. نصفه الأيسر شبه متوقف.. بدءاً من عينه وانتهاء بقدميه.. يجلس فى مدخل الباب الرئيسى للمسجد وبجانبه عصاه التى يتوكأ عليها قبل أن ينتقل ليفترش كرتونة مستطيلة فى الساحة الرئيسية وما بين المدخل والكرتونة يتنقل كل نصف ساعة تقريباً.. وفى يده اليمنى زجاجة مياه متهالكة.. بين الحين والآخر يقوم بسكبها على رأسه لتخفف عنه لهيب أشعة الشمس الملتهبة.. لا يطلب إحساناً من أحد ولا يرفع يده طالباً أى فلوس من المارة.. كل ما يفعله رؤية كل من رايح وجاى حول ساحة المسجد.. والتركيز مع المصلين أثناء خروجهم ودخولهم. بخطوات بطيئة.. توجهت نحوه.. وتعبيرات وجهى يكسوها الآلام وأوجاع وهموم الدنيا.. جلست بجانبه دون أن أتكلم.. ووضعت رأسى بين يدى وعيناى متجهة للأرض.. متمنية من الله أن يتحدث معى.. بعد حوالى «تلت» ساعة تقريباً بادرنى بسؤال.. كدت أطير من الفرح، وبصوت مجهد وكلمات متقطعة تتفهم بالعافية دار بينى وبينه هذا حوار بادرنى فيه قائلاً: مالك يا بنتى؟ - قلت له: مفيش.. انتى منين؟ - من صفط اللبن. صفط اللبن أنا عارفها.. آه اللى جابك هنا. - طفشانة من جوزى.. سبت البيت وطفشت. معاكى عيال؟ - أيوا ولدين.. كام سنة؟ - 10 و8 سنين فى مشاكل؟ - بلاوى مش مشاكل وبس.. وبحكمة بالغة لم أتوقعها من رجل فى مثل هذه الظروف ومن هذا المكان.. قال بنصيحة يكسوها حنان أبوى: لا يا بنتى ارجعى بيتك واصطلحوا..اوعى تقعدى القاعدة دى.. قاعدة الشارع وحشة.. ومحدش حيرحمك.. ودخلة الليل فيها مصايب سودة هنا.. اسمعى كلامى وروحى أحسن. سكت لحظة.. ثم سألنى بفضول انتى بتشتغلى؟ - قولت: لأ متعلمة؟ - لأ وفجأة.. تدخلت سيدة فى الخمسينات كانت تجلس بجانبنا.. تردد عبارة.. ساعدونى يا ولاد أنا ضريرة.. ساعدوا واحدة ضريرة.. رغم أنها ترى جيداً.. وصحتها تبدو أنها على ما يرام.. ترفع يدها طلباً للإحسان.. وأذناها تمتدان إلينا. نظرت الىّ وقالت: انتى لسة صغيرة وممكن تشتغلى وتكسبى دهب.. أنا ممكن أشغلك فى البيوت.. تنفضى سجادة.. تكنسى.. تمسحى.. ادينى نمرتك.. وأنا حجبلك شغل من بكرة. فرددت مسرعة معيش تليفون نبقى نتفق بعد كده على ما فكر.. وقتها كان خروج المصلين من صلاة العصر فتركتنى ونهضت مسرعة متجهة نحوهم. عدت مرة أخرى لعم بدر صاحب الستين عاماً الذى نصحنى بالعودة لمنزلى فبهدلة زوجى -على حسب قوله- أرحم ميت مرة من بهدلة الشارع. سألته عن حاله ولماذا يجلس هنا والأهم لماذا لم يطلب مساعدة؟! روى حكايته بأسى وحسرة قائلاً: هو أنا شويه عشان أطلب فلوس من حد!! دا أنا كنت حداد مسلح وبكسب 600 جنيه فى اليوم.. وبانى عمارة كبيرة مجوز فيها البنات.. قاطعته باستفزاز لما يقول وسألته.. طب إزاى كل ده وقاعد هنا؟! رد عليه وهو مقتضب الحاجبين وفمه على وشك التشنج.. اسكتى بقى متفكرنيش.. شعرت نحوه أننى ضغط على موطن جرحه.. صمت ثوانى.. وخفت أن أحاوره مرة أخرى.. خشية أن يضربنى أو أن ألقى منه رد فعل غير متوقع.. بعد لحظات وقبل أن أنوى الرحيل من جانبه.. فوجئت باعتذاره لى قائلاً.. متزعليش يا بنتى.. وحكى لى قصته بعد أن عاهدته كما طلب منى بعدم فتح الموضوع تانى أبدا. أنا من منشية ناصر وبيتى وولادى موجودين.. عملت توكيل عام لزوجتى عندما أصابتنى جلطة فى نصفى الأيسر كله.. رفضوا علاجى.. وأخذت كل ما أملك بالاتفاق مع بناتى.. ولم أجد أمامى سوى قصر العينى للعلاج.. ونظراً لضعف الإمكانيات وعدم تقديم العلاج لم أجد تحسناً واحداً فى حالتى فأصابنى الملل والزهد فى كل الدنيا ومش عاوز حاجة خالص.. أنا هنا مرتاح قوى قوى. وفجأة بدا عليه ملامح عدم الاتزان والعقل معاً عندما قال.. أنا عندى فلوس كتير ومش محتاج حاجة وممكن أرجع لبيتى فى أى وقت. سكتنا معاً لدقائق معدودة ثم قال لى: متحمليش هم يا بنتى.. بيعملوا هنا مائدة رحمن حخدك ونروح نفطر كلنا مع بعض.. ثم أشار بأصبعه السبابة نحوى فى صيغة أمر وقال.. اوعى تمدى إيدك وتطلبى حاجة من حد.. بس قولى يا رب.. تركت عم بدر على أمل أن أعود إليه لنفطر سويا، وقلت كما أمرنى.. يا رب. للدوشة أسرار من ناحية مصلى السيدات لمحته يفترش الأرض بكرتونة وقطعة قماش.. ممدداً قدميه للأمام تارة ومربعها فى لحظات قليلة.. شعره قليل مائلاً للصلع.. قدماه متورمتان ويبدو عليهما سقم.. لا يمتلك حذاء أو حتى «شبشب» يمسك المصحف الشريف بيديه مع اقتراب وجه داخله وكأنه يقرأ الآيات ويراها بصعوبة.. مع اهتزاز جسده يمينا ويساراً.. للأمام والخلف.. يقرأ كثيراً ويرتاح قليلاً، موجهاً بصره نحو السماء، جلست بجواره وسألته..فى حد بيدى فلوس هنا؟ لم يرد على رغم تكرار سؤالى عشرات المرات.. وعندما فاض به الكيل من إلحاحى.. قال لى بصعوبة بالغة فى النطق والحركات «أنا سبت الدنيا من الدوشة.. الدوشة.. دوشة «ثم راح يستمر فى قراءة القرآن.. وفجأة اقتربت منى سيدة عجوز يبدو عليها الجرأة والنصاحة والقوه معاً، ترتدى جلباباً أسود وغوايش ملونة عاج فى يدها اليمنى.. قصيرة القامة.. فى منتصف الخمسينات أو يزيد.. تحمل كيساً أسود به عيش ناشف مكسر تخرجه من الكيس وترصه على سور المسجد.. وبصوت عالٍ سمعت كل الموجودين بالمكان.. صرخت فى وجهى قائله: حرام عليكى.. عاوزة إيه منه.. سبيه فى حاله.. وعندما سألتها عنه.. أشاحت لى بيدها قائلة: ملكيش دعوة بيه خالص.. دا مش بيكلم حد.. وعايش حياته كده.. امشى.. امشى من هنا.. انتى عاوزة إيه؟! وعندما سألتها عن نفسها وقبل أن أنطق كلمة طب بقولك.. كادت أن تضربنى قائله.. «لا تقوليلى ولا أقولك» امشى من هنا أحسن لك. تركتها بعد أن اكتشفت بعدها أنها سيدة المكان الحاكم بأمره والمحامى المدافع عن مملكة الدراويش. أخوه فى أمريكا.. وهو ع الرصيف! وقبل ان تنتهى جولتى لمحته يقف مستنداً ظهره خلف سور المسجد يرتدى جلباباً أبيض..حافى.. وأمامه عكاز مربع يتوكأ علية أثناء السير.. علامات الوهن والمرض والعجز تكسو ملامحه وتميز حركة هذا الرجل الخمسينى.. اقتربت منه ووقفت بجانبه فى صمت.. لم ينتبه لى نهائياً.. بل كان موجهاً تركيزه ونظراته للسماء.. اقتربت أكثر وسألته.. فى حد بيدى فلوس هنا؟ رد علىّ بصعوبة: قولى يا رب. وسرعان ما تعرفت عليه ورويت له قصتى المزيفة.. وبدأ «حامد» يحكى لى عن نفسه.. لم يتزوج من قبل وله شقيقان مقيمان فى أمريكا.. ويعيش مع أخته الوحيدة فى حى الحسين.. فهى أرملة وموظفة ومعها أولاد.. قال الرجل إنه أصيب منذ فترة طويلة فى حادث سيارة ولم يعالج حتى وصلت حالته على ما هو فيه الآن.. صعوبة فى التنفس ومشقة فى الكلام «لا يطيق قعدة البيت» وليس أمامه سوى هذا المكان الذى يسرح ويستريح فيه.. لا يسأل الناس إلحافاً ولكن ما يعطيه له أولاد الحلال يساعد به أخته حتى لا يصبح عبئاً عليها.. أما شقيقاه فلا يعرف عنهما شيئاً منذ أن غادرا مصر إلى أمريكا.