كتبت فى 10 يونيو الماضى مقالاً بعنوان "بين حركة الضباط وثورة الشعب" أعدد فيه أوجه الشبه بين ثورتى يوليو 1952 ويناير 2011، واقتبست من مذكرات "سليمان حافظ" بعض المقاطع التى تصف واقع مصر إبان الفترة بين 52 و54 وصفاً هو الأقرب إلى ما حدث فى مصر 2011 خلال أقل من ستة أشهر فقط على ثورة الشعب العظيمة ضد حكم مبارك. لكننى حرصت أيضاً على تبيان أوجه الاختلاف بين الثورتين ودور الشعب فى كل منهما، ذلك الدور الذى وإن عظم شأنه فى ثورتنا الأخيرة فإن أثره يتراجع فى ظل غيبة الزعامة والوعى السياسيين. ومنذ نشر هذا المقال تداعت الأحداث مسرعة لتختزل فى بضعة أشهر أحداث عامين من الصراع السياسى على السلطة فى عقب حركة الضباط، فخرج المنظّرون يقاربون بين الثورتين، ويتوقعون لثورة يناير مصيراً توأماً لثورة يوليو، وخيّم البؤس واليأس والوجوم على الوجوه والأقلام. لكن تلك الحالة على وجه التحديد هى إحدى أهم ضمانات عدم عودة عجلة الزمن إلى الوراء، كيف يكون ذلك؟ هناك العديد من الشواهد على أن ما تعانيه مصر هذه الأيام من مقدمات التفسّخ والصراع والتخبّط لن يؤدى بالضرورة إلى نتائج الاستبداد والانفراد بالسلطة وأذكر من هذه الشواهد ما يلى: أولاً: تنامى دور ما يمكن تسميته بكتائب الإعلام الشعبى: تلك التى لعبت الدور المحورى فى إشعال فتيل الثورة، ومازالت تتحرك بخفة ورشاقة بين أحداث ما بعد خلع مبارك، لتعرّى سوءات القابضين على السلطة، وتنشر وعياً جماهيرياً فريداً يستشرف المستقبل من واقع أحداث التاريخ التى عمد النظام السابق على إخفائها وتزييفها على مدار ستين عاماً. تسير هذه الكتائب بغريزتها الحرة المستقلة عن أية قيود مادية، وقد يدفعها حرصها المفرط على تجنّب تكرار تجربة الحكم الشمولى إلى المغالاة فى تقدير دهاء أعضاء المجلس العسكرى، فيلبسون العجز والضعف والعشوائية لباس الخداع والمكر والتربّص بقوى الثورة! والحق أقول فإن الدعاية الناصرية الزاهدة فى السلطة قبيل عام 1954 والتى سرعان ما انكشف زيفها عادت لتتمثّل أمامنا فى تصريحات شبه يومية لممثلى المجلس العسكرى بأن الجيش لا يطمع فى الحكم! والغريب أن هذه الدعاية مازالت تلقى رواجاً عند البعض على الرغم من أن الجيش لم يترك السلطة يوماً واحداً منذ عام 1952! لكن المهم أن الغالبية العظمى من الشعب لم يعد يصدّق هذه المزاعم على تكرارها مثلما فعل مع فرية مبارك بأنه لن يكون هناك توريث! فما أسهل أن تطلق تصريحاً فضفاضاً ثم تعود فى الوقت المناسب لتأويله على هواك وما أكثر الحواة فى السياسة والقانون. ثانياً: غياب الابتكار والتجديد عن الأداء السياسى للمجلس العسكرى: وكأنما أمسكوا بمذكرات الضباط الأحرار واختار كل منهم صنواً له من مجلس قيادة الثورة يريد أن يتمثله فى أعماله وتصريحاته!، بل إن لجوء المجلس العسكرى للتحالف مع قوى الإسلام السياسى هو بالضبط ما فعله ضباط يوليو فى أول عامين من حركتهم لعبور أهم خطوة فى اتجاه بسط شرعيتهم للحكم. فمشكلة المجلس العسكرى أنه لا يرى عيباً واحداً لثورة يوليو ومن ثم يريد أن يعيد كتابتها بنفس الحروف والألوان! فترى اللواء "ممدوح شاهين" يتحدث فى ثقة عن مكاسب ثورة يوليو وضرورة صيانتها ومنها نسبة الخمسين فى المائة عمال وفلاحين بمجلس الشعب! تلك النسبة التى أدرك المجتمع المصرى وفى مقدمته جماعة اليسار مدى قبحها وشذوذها عن شروط تكوين المجالس النيابية فى مختلف دول العالم، كما أدرك أنها من أبرز خسائر ثورة يوليو لا مكاسبها. ومن طبائع الأمور أن الناس يتعلمون من أخطائهم وأن موروث الاستبداد الذى تركه مجلس قيادة الثورة لابد له من أسباب سوف يعمل الناس جاهدين على تلافيها فى حاضرهم ومستقبلهم. ثالثاً: حالة التربّص والخوف من حكم العسكر: تلك التى أشرت إليها فى بداية المقال كواحدة من أهم ضمانات عدم عودة الزمن إلى الوراء. فالذين تظاهروا لعودة محمد نجيب فى أحداث فبراير-مارس 1954 وقد مثّلوا قمة الوعى الشعبى الليبرالى آنذاك، أسقطوا حقائق هامة لا أظنها تغيب عن صناع ثورة يناير 2011 مثل أن محمد نجيب رجل عسكرى يجمع ثلاث رئاسات، وقد شهدت فترة حكمه القصيرة استسلامه لترزية القوانين يعزلون خصومهم السياسيين على حساب مصلحة الأمة، كما شهدت محاكمات عسكرية هزلية وصورية تناقض مفهوم "الثورة البيضاء" الذى شاع فى حينه، كتلك المحاكمة التى نصبت لعمّال مصانع كفر الدوار للغزل والنسيج وقدّم لها فى شهر أغسطس 1952 ما يزيد عن ستين متهماً من بينهم أطفال فى سن العاشرة على خلفية مظاهرات عمّالية ضد الإدارة الرجعية!. وقد خلّفت المحاكمة الباطلة قتيلين حكم بإعدامهما بليل هما العامل "محمد مصطفى خميس" والخفير "محمد حسن البقرى"، بينما تسامحت ذات الإدارة العسكرية خلال الفترة نفسها مع تمرّد مسلّح خطير نشب فى الصعيد على يد أحد الأعيان واسمه "عدلى لملوم" (لاحظ الشبه بين هذا التمرّد وبين تلويح عبد الرحيم الغول منذ أسابيع بثورة مضادة فى الصعيد) علماً بأن لملوم قد حصل على حكم بالمؤبد تم تخفيفه لاحقاً ثم حصل الرجل على عفو صحّى بعد ذلك!. فإذا كان الوعى الشعبى قد اختار نجيباً على الرغم من هنّاته لأنه طريقهم المُصدَّق والموعود للديمقراطية، فإن جموعاً كبيرة من الشعب قد تحرّكت بقرارات 5 و25 مارس عام 1954 التى أوحت للجماهير -خاصة الطبقات الفقيرة- أن أوضاع الفساد فى العهد الملكى سوف تعود بحل مجلس قيادة الثورة وعودة الجيش إلى الثكنات، فشهدت مصر إضراباً عظيماً فى يومى 28 و29 مارس من العام ذاته، وحدثت فاجعة الاعتداء على رئيس مجلس الدولة. وإذا كانت بعض الشهادات تحدثنا -بغير دليل ملموس- عن وقائع التحريض فى تفاصيل هذه الهبّة الشعبية، فإنه من الواضح أن الشعب لم يلفظ تلك الاحتجاجات التى نادى فيها مصريون كُثُر بسقوط الديمقراطية وتأييد حكم العسكر! والسؤال الآن: هل يحتمل المشهد المصرى اليوم أحداثاً مثيلة وحشداً يدعو إلى سقوط الديمقراطية وبقاء العسكر؟ لا أظن هذا، صحيح كانت هناك محاولات متواضعة لفلول الحزب الوطنى لزرع بذور هذه الفتنة، لكن سرعان ما انكشفت وبقيت المقارنة بين فلول روكسى وملايين ميدان التحرير فاضحة لمنافقى المجلس العسكرى، فدوّت هتافات بسقوط حكم العسكر ولمّا يمض على شهر العسل بين الثورة الشعبية والمجلس العسكرى بضعة أشهر، وانكسر حاجز الخوف والرهبة من بطش الشرطة العسكرية بعدما بهت أداؤها فى التصدى لحالات الانفلات الأمنى، وبعدما قارنها الثوّار بجهاز أمن الدولة المنهار. قد يقول قائل: ألم تمنح قرارات مارس من عام 1954 حرية للصحافة تعرّض على أثرها أداء مجلس قيادة الثورة للانتقاد المهين واتهم الكثير من عناصر الجيش بالفساد وبالتالى ساهمت فى كسر حاجز الخوف من العسكر؟ الإجابة بلى، لكن هذه نافذة فتحت لعدة أيام فقط وقُصِدَ لها أن تأتى بنتيجة عكسية، فلا هى طالت لتساهم فى صناعة وعى جماهيرى موضوعى معارض للعسكر، ولا هى تركت "محمد نجيب" يمضى فى مخططه الديمقراطى، فعزل للمرة الثانية خلال شهر ونصف فقط من عزله الأول فى 25 فبراير 1954 حينما قبلت استقالته من كافة مناصبه، وكان العزل الثانى فى 17 أبريل من العام ذاته عندما اتفق مجلس قيادة الثورة على اكتفاء نجيب بمنصب رئيس الجمهورية وتولّى عبد الناصر رئاسة الوزراء، وفى هذا يقول اللواء "جمال حماد" فى شهادته للتاريخ: "وكانت تنحية محمد نجيب من رئاسة الوزارة بمثابة تنحيته عن السلطة تماماً، وانتهت فى الواقع المرحلة الأخيرة من مراحل الصراع على السلطة بينه وبين عبد الناصر، ففى الوقت الذى تجمعت فيه خيوط السلطة فى يد عبد الناصر قبع محمد نجيب ساكناً فى مكتبه بقصر عابدين دون أية سلطة أو نفوذ انتظاراً لمصيره المحتوم" وكان هذا المصير هو قرار مجلس قيادة الثورة فى 14 نوفمبر من عام 1954 بإعفاء نجيب من رئاسته -الشرفية- للجمهورية وتحديد إقامته خارج القاهرة، وحرمانه من حقوقه السياسية لمدة عشر سنوات!! رابعاً: الظروف الدولية والإقليمية: لولا إدراك مجلس قيادة ثورة يوليو لأهمية التأييد الدولى وخاصة الأمريكي لعزل الملك، وإقامة النظام الجمهورى، والحد من النفوذ البريطانى لما تم لهم النجاح، كذلك يدرك ضباط المجلس العسكرى (وهم المقلِِّدون لسابقيهم) أن الظروف الدولية والإقليمية فى عام 2011 تصب فى اتجاه واحد، هو التخلص من النظم الاستبدادية التى أصبحت عبئاً على النظام الدولى ومصنعاً للإرهاب والتطرف. ولا يمكن لحركات الثورة والتحرر عن يمين مصر وشمالها لتمضى دون تأثير فى الواقع المصرى، ناهيك عن كون معظمها تأثر أولاً بوحى الثورة المصرية وأغلق دون الثورة المضادة فى مصر باب الرجعة. كثيرة هى الشواهد على تغيّر الزمن وتبدّل الأحوال لكن قدرات وإمكانات العسكريين تحبسهم فى قالب "عبد الناصر" ودليله المدرسى للثائر الماكر!، كدأب أنصار الفكر الوهابى، يحبسهم مشايخهم فى قالب البداوة ونبذ كل جديد، وربما تسبب ذلك الجمود الفكرى فى تقارب العسكر والسلفيين، ونفورهم من شباب الثورة والانترنت.