مابين بيع المناديل والكتيبات الدينية في الشوارع ومواقف سيارات الأجرة بين المحافظات والمدن، والعمل في المناطق الصناعية وسيارات السيرفيس.. يتنقل الصغار في محافظة قنا سعيا وراء جنيهات معدودة يعودون بها لأسرهم بعد عناء يوم طويل لشراء الاحتياجات الضرورية . وقد تتماثل عمالة الأطفال في محافظات الصعيد مع غيرها من المحافظات وإن كانت لها خصوصيتها في قنا حيث يكون الفقر وتدنى الحالة المعيشية سببا رئيسيا في نزول الأطفال في سن صغيرة إلى سوق العمل في مهن لا تتناسب مع أعمارهم.. مما يعرضهم لانتهاكات جسدية ونفسية لا يعبأ بها الأهل لحاجتهم لجنيهاتهم القليلة ولا يلتفت إليها صاحب العمل الذي يري في تدني أجورهم فرصة لا تعوض لتوفير النفقات.. شهادات صغيرة وتقع فئة الأطفال العاملين في محافظة قنا الذين تقل أعمارهم عن 15 عاما ضمن الفئة التي لا يوليها المجتمع العناية الكافية ، ويرتبط ذلك بالتركيبة الاجتماعية في الصعيد التي تجعل الذكور يساهمون في تحمل أعباء المعيشة في سن صغيرة ، بما يفسر رغبة الآباء وخاصة في المناطق الريفية في إنجاب الذكور ، لتصبح الطفولة مرحلة مؤقتة يجب تخطيها ..! أسماء سيد 14 سنة " بائعة خبز " تقول : بعد عودتي من المدرسة أساعد أمي في بيع الخبز في الشارع فلدينا في المنزل فرن صغير نخبز فيه " العيش البلدي "، وأبيع الواحد بجنيه ونصف حتى أفرغ من بيع الكمية في الثالثة عصرا وأعود للمنزل القريب من " الفرش " ، وأنا سعيدة أنى أساعد أسرتى لأن أبى معاق ويعمل " بائع سريح " . محمد رمضان 11 سنة " عربجى كارو " يقول : تعلمت مهنة قيادة الكارو من أبى فهي مصدر رزقه الوحيد، وتركت التعليم لأنى لا أحبه ، وأبدأ العمل في الصباح الباكر وأحيانا يخرج معي شقيقي أحمد 8 سنوات ، ونعمل حتى المغرب.. ثم نعود للمنزل و " كل يوم برزقه " . سيد أبو الحمد 8 سنوات " بائع مناديل " يقول : توفى والدي منذ 3 سنوات ونحن 6 أشقاء 3 بنات و3 ذكور، وأكبر أشقائى " حسن " يعمل ميكانيكي ، واضطررت لترك المدرسة لأعمل في بيع المناديل والكتيبات الدينية في الشوارع ومواقف السيارات، وأتحصل في اليوم على 10 جنيهات أعطى نصفها لأمي وبشترى بالباقي سجائر . ياسر عبد المجيد 14 سنة " بائع ليمون " : بلدتنا تشتهر بزراعة الليمون.. وكل من هم في سني يعملون في نفس المهنة بعد أن نخرج من المدرسة، ونشترى كميات كبيرة ونوزعها على بعضنا البعض ونبيع منها في المدن ، وأنا سعيد بعملي لأنى أكسب رزق حلال . أمجد بهيج 15 سنة " عامل في ورشة خراطة " : توفى والدي وكان يعمل سائق في حادث سيارة وأنا أكبر أشقائى ، وبدأت العمل منذ 3 سنوات في مهنة " تباع سيارة سيرفيس " ، ولكن كانت " فلوسها قليلة " وانتقلت بعدها لتلك المهنة حيث أساعد صاحب الورشة وأتعلم المهنة حتى أفتح ورشة خاصة بى في المستقبل . على صعيد الإهمال وبحسب متخصصين في علم الاجتماع ومنهم د. السيد عوض ،أستاذ علم الاجتماع بجامعة جنوبالوادي، فإن ظاهرة عمالة الأطفال في محافظة قنا لم تحظ بالدراسات بقدر ما حظيت بها نفس الظاهرة في الوجه البحري رغم أن الاهتمام بتلك الظاهرة في الصعيد يعتبر أمرا ملحا لأن ذلك الجزء من مصر هو الأكثر فقرا بين محافظات الجمهورية ، ويفسر " عوض " انتشار الظاهرة إلى عدة أسباب منها تدنى المستوى الاقتصادي والفقر والتفكك الأسرى وانهيار النظام التعليمي ، لافتا أن محافظات الصعيد جاذبة لعمالة الأطفال بسبب عدم اهتمام الدولة بالتنمية فيها ، وأوضح أستاذ علم الاجتماع أنه لا يمكن حصر أعداد عمالة الأطفال في المحافظة ولكن يمكن إيجاد ارتباط بين التفكك الأسرى والفقر وانتشار عمالة الأطفال من دون ال18 سنة . ويكشف الناشط عادل غزالي ،مدير المركز الدولي للدراسات بقنا، أن عمالة الأطفال بالمحافظة تساهم بنسبة 30 % من دخل الأسر التي يعمل أبناؤها في سن أقل من 18 سنة، وذلك بسبب الفقر ووفاة العائل " الأب " من جهة.. وبسبب جهل الآباء وكثرة الإنجاب من جهة أخرى، موضحا أنها تتركز في مهن شاقة على الأطفال وأن تلك العمالة تتعرض لانتهاكات صحية وجسدية من رب العمل.. بسبب طبيعة العمل نفسه والمعاملة السيئة وإسناد أعمال لهم لا يكون بوسعهم إنجازها نظرا لطبيعة التكوين الجسدي لهم في تلك المرحلة العمرية. لافتا أن أجور تلك العمالة توازى 25 % فقط من أجر العامل الكبير بما يعد سببا جوهريا لزيادة الطلب عليهم من أصحاب الأعمال لتوفير النفقات . ويشير " غزالي " أن هناك مفاهيما خاطئة لدى الآباء في دفع أبنائهم للعمل في سن صغيرة لتعلم حرفة أو صنعة بدلا من إكمال التعليم، موضحا أن أرباب الأعمال لا يحرصون على نقل صنعتهم إلى تلك العمالة وأنهم يرتكبون انتهاكات خطيرة بحقهم، مستشهدا بحادثة شهيرة وقعت بالمدينة الصناعية بقنا قام خلالها صاحب ورشة بنفخ طفل من العاملين بالورشة على سبيل العقاب بوضع مضخ الهواء " الكومبوريسيور " في مؤخرته مما أصابه بتهتك شديد في الأمعاء، فضلا على تعلم عادات التدخين وإدمان المخدرات والألفاظ النابية والمشاكل النفسية ومنها العدوانية والشراسة . أمراض وأحقاد وعن الأمراض التي يتعرض لها الأطفال نتيجة عملهم يوضح د. أحمد بركات أن الطفل الذي يمارس العمل في سن مبكر معرض أكثر من غيره للإصابة بكثير من الأمراض وأولها سوء التغذية.. فحتى لو توفر الطعام يكون ملوثا، ولذلك فإن تلك العمالة معرضة للأمراض المعدية ومنها الحمى التيفودية والديدان والطفيليات وفيروس C ،الذي تظهر أعراضه على الأطفال بعد سنوات من الإصابة به. ويضيف بركات أن الآثار النفسية التي يتعرض لها الطفل لا تقل خطورة فنراه يعقد مقارنة دائمة بينه وبين أقرانه الذين توفرت لهم التربية السليمة والتعليم والمأكل والملبس النظيف، فيشب حاقدا على المجتمع ولا يبالى بالانتماء لأسرته أو وطنه، مؤكدا أن الطفل يحتاج إلى فترة زمنية ليكتمل نموه الجسدي والعقلي وهذه الفترة تحدد بالبلوغ في سن 14 : 18 . ويؤكد طارق جمال " محام " أن القوانين التي تجرم تشغيل الأطفال في سن صغيرة غير مطبقة، لافتا أن العيب ليس لعدم وجود قوانين بل بسبب عدم تفعيلها ومنها المادة 2 من قانون حماية الطفل التي نصت على أن الدولة تكفل حماية الأمومة والطفولة وترعى الأطفال ، لافتا أنه يقصد بالطفل في مجال الرعاية المنصوص عليها كل من لا يبلغ 18 سنة ، وفى المادة 64 من نفس القانون فيما يختص برعاية الطفل العامل بأنه يحظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم 14 سنة ولا يجوز تشغيل الطفل أكثر من 6 ساعات يوميا أو في العطلات والراحة الأسبوعية بالإضافة إلى مواد قانونية أخرى لا يتم تطبيقها على أرض الواقع .