لصوص ولكن زُعماء.. بعضهم تحولوا إلى أساطير ونُسجت عنهم القصص والحكايات، والبعض الآخر صاروا أبطالاً شعبيين رغم إجرامهم. ويبدو أن ولع المصريين بالخوارق هو السبب، فالأمور الطبيعية لا تلفت الانتباه، ومَن يطالع القصص الشعبى يندهش كيف أحب الناس مُجرمين ونشالين ومُحتالين وبلطجية. فى مُذكراته الخاصة يروى اللواء محمد صالح حرب وزير الحربية الأسبق وشقيق طلعت باشا حرب مؤسس بنك مصر قصة المجرم الشقى «ياسين» والذى نُسج حوله الموال الشهير «يا بهية وخبرينى يا بوى على اللى قتل ياسين». تقول مذكرات الرجل بعد تخرجه في الكلية الحربية سنة 1903 وخدمته ضمن سلاح خفر السواحل ما يلى: كان ياسين أعنف شقى وأجرأ مجرم مشى على أرض مصر فى زمنه. اتخذ الرجل القتل حرفة فكان يقتل ليلهو ويلعب ويقتل ليسلب وينهب، ويطرب كل الطرب عندما يسمع اسمه يردد بين الناس فى خوف وهلع. وكان يقول لأقاربه لماذا لا أكون مثل أبى زيد الهلالى على الربابة، وقد روّع هذا الشيطان الرجيم بجرائمه مديرتى قناوأسوان وأصبح لا حديث للناس إلا ما يتوجسونه من بلائه وشره المستطير. ويضيف: أن الناس امتنعوا عن الخروج من منازلهم ليلا فى بعض مدن وقرى المديريتين وقد ضاقت وزارة الداخلية ذرعاً بهذا الشقى وشددت النكير على المديرين القائمين على الأمن فى قناوأسوان وأمدتهم بقوات إضافية وصاروا يجردون عليه قوات من الجنود والخفراء بقيادة ضباط ليتعقبوه دون نجاح، فكان يخاتل القوات ويقتل منها وينتهى الأمر بمحاكمة قائد القوة ولا تنقطع سيرته ولا تهدأ سريرته، ورأت وزارة الداخلية أن تكلف عمدة قبيلة هذا الشقى هو على بك وهددته بأن تجرده من رتبته إذا لم يأت بهذا الشقى حياً أو ميتاً. وظل العمدة يطارده برجال من قبيلته حتى عثر عليه فى أحد المخابئ وطلب منه أن يستسلم فقال للعمدة: يا سيدى أنت عمدتنا ورئيسنا ويعز علىّ أن أؤذيك وأنت تعلم أنى محكوم علىّ بالإعدام ولن ترحمنى الحكومة إذا قبضت علىّ وأنا لن أسلم نفسى حياً أبداً ولن أموت رخيصاً فخير لك أن تتركنى ولم يسع العمدة إلا أن يتركه وشأنه وعندما جاء مفتش الداخلية قال له العمدة خذوا رتبكم ونياشينكم إذا شئتم ولست أقوى من الحكومة حتى تكلفونى بما لا أطيق، وأنا علمت أن الشقى فى جهة كذا فاقبضوا عليه أو اقتلوه». وفى تلك الأوقات كان صالح حرب يخدم بمنطقة أسوان وبالمصادفة وقع الشقى ياسين فى طريقه حيث يحكى «كنا فى الطريق صوب حلفا عندما جاءنى الاومباشى وقال لى: يا أفندم أنا شفت عربى نائم على بطنه وفى يده بندقية فى المغارة هناك، وأشار إلى مكانها، وقال الدليل المصاحب لنا «وإحنا مالنا» وربما أدرك أن ذلك الشقى هو ياسين. لكننى وجدت نفسى مندفعاً لأرى هذا الرجل وجن جنون الدليل وحاول أن يثنينى عن ذلك فأبيت وعدت إلى المغارة وسمعنا الراقد على بطنه وفى يده بندقيته وأطلق طلقات سريعة علينا فأدركت أن الرجل هو الشقى ياسين وعدت فوق التبة وأخذنا نطلق عليه النار، ثم أحضرت حزمة بوص وربطتها بحبل وأشعلت فيها النار وأدليتها من فوق الكهف، فإذا به يطلق علينا عدة طلقات حتى أصيب عسكرى معى فأصدرت أوامرى بإطلاق النار عليه وبالفعل أصابته إحداها فى قلبه. ودخل صالح حرب إلى الكهف ليجد كافة وسائل الحياة ويجد زوجته تولول ثم عندما علمت بموته اندفعت تزغرد وتقول «بركة لى بركة لى»، وعندما أبلغ مأمور مركز المحاميد لم يصدق حتى رأى جثمانه فى شوال وقال «لقد تخلصنا من شيطان رجيم». الغريب فى الأمر ما يحكيه «حرب» بعد ذلك بأنه لم تمض أيام على قتل ياسين حتى نظم أحد أبناء الصعيد أغنية لم تلبث أن رددها الشعب كله من أقصى الصعيد إلى شمال الدلتا تقول «يا بهية وخبرينى ع اللى قتل ياسين». وفى القصص الشعبى تبرز حكايات أدهم الشرقاوى باعتباره بطلاً وطنياً حارب الإنجليز وقاومهم وهو ما دفع إعلام يوليو إلى إطلاق أعمال فنية للتغنى ببطولاته رغم أنه لم يكن سوى لص مُحترف وقاطع طريق شهير. وقد خلدت المواويل الشعبية الرجل حتى صار مَن يحاول تقديم صورة حقيقية لأفعاله ناكراً للجميل وطاعناً فى الأبطال الوطنيين. وغنى عبدالحليم حافظ موالاً شهيراً على أدهم قال فيه «منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه. الاسم لأدهم ولكن نأبه شرقاوى» صوره فيه بأنه بطل شهم يقاتل من أجل الفقراء ويحارب الإنجليز والخونة. والغريب فى الأمر أن وثائق وزارة الداخلية المصرية وما نشرته عن اللص بمتحف الشرطة يشير إلى اختلاف جذرى فى كافة التفاصيل بدءاً من عدم انتماء أدهم للشرقية وحتى حقيقة سجنه بتهمة مقاومة الإنجليز. إن الوثائق الرسمية تشير إلى أن أدهم من مواليد إيتاى البارود سنة 1898 وليس الشرقية وتحديداً قرية زبيدة وأنه كان قوى البنية والتحق بإحدى مدارس كفر الزيات، وأن مقتل عمه دفعه إلى الثأر ودخول السجن مبكراً، وقتل قاتل عمه. وفى زمن ثورة 1919 استغل أدهم الفوضى القائمة وهرب من الليمان وكون عصابة قطع طريق، ثم عمل كقاتل مأجور مقابل المال حتى حاصرته قوات الأمن وقضت عليه. وتكشف لنا نسخة من مجلة اللطائف المصورة في أكتوبر سنة 1921 نشرها مؤخراً زميلنا ماهر حسن في المصري اليوم صورة أدهم التي نشرت مع خبر مقتله تحت عنوان «المجرم الأكبر الشقي الطاغية أدهم الشرقاوي بعد أن طارده رجال الضبط والبوليس واصطادوه فأراحوا البلد من شره وجرائمه». وذكرت «اللطائف» أن أدهم ارتكب حادثة قتل وهو في سن التاسعة عشرة، وكان عمه عبدالمجيد بك الشرقاوى عمدة زبيدة أحد شهود الإثبات، ثم هرب من السجن وكون عصابة تخصصت فى السرقة والقتل وأنه من بين عملياتها قتل الشيخ حسن السيوى من أعيان كفر خليفة، وأنه كان يسطو على التجار على قارعة الطريق نهاراً ويسلب محافظهم وما يحملون. وأخيراً أرسل ملاحظ بوليس التوفيقية أحد الجاويشية ويدعى محمد خليل ومعه أومباشى سودانى وأحد الخفراء فكمنوا له فى غيط ذرة بزمام عزبة جلال، وكان أدهم الشرقاوى فى حقل مجاور من حقول القطن يتأهب لتناول غذائه الذى جاءته به امرأة عجوز، وكان يخفر أحد الخفراء النظاميين. ولما أحس أدهم الشرقاوى بحركة داخل غيط الذرة المجاورة أطلق عدة طلقات من بندقيته الماروز دفاعاً عن النفس ولكن الجاويش محمد خليل أطلق عليه رصاصتين فسقط قتيلاً قبل أن يتناول شيئاً من طعامه. وإذا كان عبدالحليم حافظ ومحمد رشدى كانا قد غنى كل منهما موالاً عن «الشرقاوى» فإن عبدالله غيث قام ببطولة فيلم باسم «الشقى» سنة 1964، ثم تم عمل مسلسلين تليفزيونين عنه فى السنوات الأخيرة. وقد ساهم الفن فى تعظيم وتبجيل محتال آخر هو حافظ نجيب والذى أطلق عليه النصاب الشهير وقد نشر زميلنا الباحث ممدوح الشيخ كتاباً عنه كشف فيه حقيقة بطل مسلسل «فارس بلا جواد» الذى قام ببطولته الفنان محمد صبحى. يحكى ممدوح الشيخ فى كتابه «اعترافات حافظ نجيب» كيف كان والده ضابطاً بالجيش ومتزوجاً من ابنة باشا تركى وقد تعارك يوماً معه فطرد وتربى حافظ مع أسرة الجناينى إلا أن جدته عطفت عليه بعد وفاة والدته وأنفقت عليه وعلمته الإيتيكيت ثم استقل ليعمل بالجيش الفرنسى المحتل للجزائر ثم عاد لمصر ليعمل فى البورصة ثم احتال فى زى راهب وتقرّب من الحركة الوطنية لكن محمد فريد أبعده لعدم ثقته فيه. وقد عرف عنه تزوير المؤلفات بكتابة روايات ومسرحيات بأسماء أدباء عالميين ونشرها بالمكتبات حتى أن البعض يشكك فى قصة ما رواه فى مذكراته التى أعاد نشرها ممدوح الشيخ. وتُحدثنا مجلة «الاثنين» فى نوفمبر 1950 عن جانب من قصة الخُط فتقول «مات الخُط فاهتزت أسيوط بأسرها من نشوة الفرح والسرور وكأنما صحا القوم هناك من كابوس مزعج قض المضاجع وحبس الانفاس وألقى فى النفوس الرعب والهلع فراحت الأفواه التى لبثت مطبقة فى حياة الخُط تلغط ببيانات الشر وبيانات العتو والإجرام التى نشرها السفاك على ذلك البلد الآمن قلقل أمنه وقوض طمآنينته. «ثم تحكى الملجة كيف كان رجال الشرطة فى قرى منفلوط لا يجدون إجابة من الأهالى على أسئلة بشأن جثث قتلى من الفلاحين والمزارعين كل يوم حتى أنه فى مرة من المرات دخلت عصابة الخط إلى منزل احد الفلاحين فصفعوه وركلوه وبصقوا فى وجهه ثم أطلقوا النار على زوجته واخترقوا شوارع القرية فى عزم وثبات وأهل القرية يرقبونهم والرعب يجثم عليهم. ولما مات الخُط حكى الناس ما جرى فقبل أسبوع كان زوج المجنى عليها جالساً مع بعض جيرانه وجاء على لسان أحدهم أن الخُط فى النجوع المجاورة فانبرى الزوج يرمى الخُط بالنذالة والجبن وأخذته الحماسة فراح يؤكد للسامعين أن الخُط أجبن من أن يدافع عن امرأته لو هاجم بيته بضعة لصوص، ووصل الكلام إلى الخُط. وفى يوم الجريمة طرق طارق باب الزوج فأطل فوجد رجلاً فارع الطول عريض المنكبين يحمل على كتفه ما يشبه البندقية وألقى الطارق السلام فرد عليه الزوجان ثم قال الطارق للزوج: أنت لازم مش عارفنى.. فرد الزوج: ما حصليش الشرف.. فضحك الطارق وقال له: دلوقتى حيصلحك.. ثُم أطلق رصاصته على زوجته قائلاً: «أنا الخُط» ثم خرج ورجاله فى ثبات وهدوء يسيرون فى القرية فى إباء. والخُط لقب أطلق على مجرم عاتٍ من أسيوط اسمه محمد منصور ولد فى بدايات القرن العشرين وصعد إلى الجبل ومعه عدد من المطاريد ليبدأ عمليات سطو مسلح على الأعيان وأصحاب الأراضى ثم يتطور الأمر ليصبح قاتلاً أجيراً. وقد شاع عنه تحديه للشرطة وكتبت عنه مجلات وصحف الثلاثينيات والأربعينيات ونقلت أساطير عديدة روجت عن شجاعته وقوته، حتى قتله البوليس فى مطاردة سنة 1947. وفى حقبة الستينيات من القرن الماضى اشتهر سفاح خطير بتنفيذ عدة عمليات قتل وسطو مُسلح اسمه محمود سليمان وانشغلت الصحافة بسرد وقائع وحكايات ملفقة حول شهامة القاتل وبطولاته وتركيزه على تصفية الأثرياء المُستغلين الذين كونوا ثرواتهم بطرق غير مشروعة، وهو ما لفت انتباه كاتبنا الفذ نجيب محفوظ فنسج عنه شخصية سعيد مهران فى رواية «اللص والكلاب» ليصوره كضحية لمجتمع قائم على المظاهر والغش والمتاجرة بالشعارات، وقد تم تقديمه للسينما بنفس الاسم وقام بدور البطولة فيه الفنان شكرى سرحان. ويشير البعض إلى أن الطريقة التى نشرت بها واقعة تصفية محمود سليمان كانت سبباً فى قانون تأميم الصحافة الذى أصدره عبدالناصر سنة 1961، حيث نشرت جريدة الأخبار فى صدر صفحتها خبراً بعنوان «مصرع السفاح» وتحته خبر «عبدالناصر فى باكستان» وسقط الخط الفاصل بين العنوانين فقرأ الناس العنوان الممتد «مصرع السفاح عبدالناصر فى باكستان» مما زاد من غضب الرئيس الأسبق على الصحافة وقرر التعجيل بقانون السيطرة على كافة الصحف وتحويل ملكيتها للدولة. ومن اللصوص الظرفاء قصة لص تاب بعد حياة حافلة بالعمليات والمغامرات المثيرة وعرف إعلامياً باسم «اللص التائب» واسمه محمد راشد. وقد استضافت عشرات الفضائيات الرجل ليحكى قصته والتى نشرها عدة مرات فى كتاب بعنوان «مذكرات اللص التائب» حكى فيها كيف سرق لأول مرة دواجن جارته وعمره 13 عاماً ثم اتجه بعد ذلك لتتبع شقق المشاهير والأجانب حتى أنه دخل فى البداية شقة صوفى أبوطالب رئيس مجلس الشعب الأسبق وسرق منها مجوهرات ومصوغات، ثم تعددت سرقاته للشقق الفاخرة حتى صار لديها شقة فخمة وسيارة حديثة. وظل «راشد» يعمل فى ثقة وهدوء حتى سقط فى يد الشرطة وتلقى حكماً بالحبس ثلاث سنوات تعلم خلالها الصلاة وقرر التوبة.