بعيون مغمضة وانفاس مختنقة كنت اتابع ما يدور حولى بجزع وقلب ذبيح ، تكورت كل طموحات الدنيا واحلامها فى لحظة ، لتتحول الى قليل من الاكسجين تجود به الانبوبة الراقدة بجانبى وهى تنفثه عبر القناع الجاثم على انفى ، لفحات الاكسجين تتسلل الى صدرى لاستعيد انفاس الحياة او استبقيها حينا لأن ورقة العمر لم تسقط بعد ، ولا يزال بها سطورا قد تكون قليلة او كثيره ، لكنى سأقرأها اذا ما غادرت تلك الغرفة ذات الطلاء والفراش الابيض ، الذى يبدو وكأنه يمهدنا لقبول لون الاكفان ، تلك الغرفة التى اكره الرقاد بها كما اكره ان ارى بها اى من البشر ، ابرة تغرس فى اعلى كفى ، وجهاز الضغط يخنق ذراعى ، والدوائر المطاطيه المدلاه من اسلاك متشابكة كالاخطبوط تلتقم جسدى لتسجل خفقات القلب المجهد ، ويد تمتد الى من تحت القناع المطاطى البارد لتوسد بفمى بضعة اقراص لمكافحة الجلطه . منذ انهيت سنوات الدراسة ، لم اعد اهتم بتشريح القلب او تذكر اسماء شرايينه واوعيته ، فقط عايشت هذا القلب سنوات عمرى باحزانه غالبا وافراحة النادره ، وواجهت كل عذاباته بالصبر والايمان وبكثير من المرح والتفاؤل فى ان الغد سيكون اجمل ، لكنى بالامس عرفت من القلب دواخله ، عندما ضن على فى لحظة بنبضه ، وتقلصت شراييته لاصاب بازمة قلبيه حاده ، انقل على اثرها من مستشفى لاخر فى منتصف الليل ، عرفت غلاوة هذا الشئ الصغير المتكور بصدورنا و الذى لا يزيد حجمه عن قبضة اليد ، والطبيب يصارحنى ويفاجئنى باخر ما كنت اتوقعه ، بوجود قصور بالشريان التاجى ، لأبدا من الان رحلة علاج لا يعرف سوى الله منتهاها . تتكور كل طموحات الحياه لتتلخص ليس فى بضعة انفاس مريحة يلتقطها صدرى دون الم ، بل فى دمعة خوف على مصيرهم بعدى ، وانا ارقبهم بنصف اغماضة ، اولادى الثلاثة وقد اكتست وجوههم بالذعر والاصفرار ، رغم بذلهم الجهد ليكونوا اقوياء ، حاول الولد الاكبر ان يكون رجلا مسؤلا وهو يقود السياره لاول مره دون توجيه منى وبلا رخصة ليحملنى للمستشفى ويده المرتعشة تحاول الثبات ، وبجانبى الآخرين وقد تشبثا بذراعى وكأنهما يقاومان بهذا التشبث اى تهديد برحيلى ، وقد انخرطت صغيرتى فى بكاء صامت ، بعد ان امرها الاوسط بالا تزعجنى بصوت البكاء او تكرار السؤال عما اشعر به كل لحظه ، تكورت كل طموحات الحياه فى سؤال رحمة ودعاء وجهته صمتا الى الله بان يرحمهم اذا ما رحلت ، والا يسلط عليهم من يقهرهم او يظلمهم ، او زوجة اب تضيع مستقبلهم ، الذى دفعت لبناءها صحتى واجمل سنوات عمرى . يتمسك الطبيب باستبقائى فى مربع الغرفة البيضاء بضعة ايام ، واتشبث بخوف اولادى من مفارقتهم ، وان تكون تلك الغرفة اخر ما اراه فى حياتى ، واقرر مغادرة المشفى لاواصل رحلة ترسيم خطوات العلاج وانا بينهم ، آمنة مطمئنه ان احدهم لن ينام جائعا ، ولن يهمل درسا ، ولن يحصل على درجات لا ترضى سنوات تعبى حتى اخر لحظة من عمرى . بقلب ذبيح وعيون قرحها الدمع والقلق عليهم لا على ، يطالعنى المشهد ، من كان زعيما عربيا ، يتحدى ارادة القدر ويواجه شعبه بنيران الموت ، يستخرج من داخل حفره جريحا ذليلا ، لينهال عليه ابناء الشعب المكلوم ضربا ، ثم قتلا ، قتله شاب يقارب عمر ابنى الاكبر ، قتله بكل غل وانتقام برصاص مسدسه الذهبى ، قتله بكل كراهية الشعب المقهور المقتول بلا ثمن على ارصفه الوطن .. القذافى ... كم يساوى الجاه والمال وسلطان كل الارض بكنوزها امام هذا المشهد من الكراهية والانتقام ، كم يساوى امتلاك الارض وما عليها مع تلك النهاية المؤسفة المذريه ، ان يموت مقتولا بيد ابناء شعبه ، وان يلقى فى حفرة قبر غير مأسوفا عليه ، حفرة لا تقل حقارة عن الحفره التى عاش بها ايامه الاخيره مختبئا مرعوبا ، بسبب عناده وتمسكه بالسلطان ولو على جثامين شعبه ، ما اشبه اليوم بالامس ، صدام حسين واستخراجه من حفرة اخرى ، ونهايته المروعه مشيعا بالكراهية واللعنات . حفره ، النهاية حفره ، لو فكر هؤلاء ان نهاية كل هذه الصراعات مجرد حفره ، تضم الجسد ، ليلقى مصيره ، اما ضاقت علينا حفرتنا باعمالنا وتحولت جحيما ، واما اتسعت وصارت قطعة من الجنه ، هل يساوى هذا شيئا فى الدينا ، مال او جاه او سلطان ، ان نرسل الى حفرتنا مشيعين باللعنات ودعاء الشر ، ام نشيع مكللين بدموع احباءنا ودعواتهم لنا بالرحمة والشفاعة. اختلطت لدى الرؤا ، آلام القلب بآلام الوطن العربى ، شعرت بشئ ساخن يقطر على وجهى ، كانت دموع ابنتى تنسال ويديها الفراشتين تلتفان حولى ، وانا اردد بين نعاس الاجهاد ويقظة الحقيقة كلمة حفره ..حفره ، انها مجرد حفره ، احتضنتها بقوة حملت كل حب العالم بقلبى لها .. لهم .. لكم .. لكل البشر المؤمن بالحب والسلام والخير .. ما اجمل ان نتوسد فراشنا فى نومتنا الصغرى او الكبرى ، وقلوبنا المجهدة لا تحمل شرا لاحد ولا حقدا لاحد ، ولا تنبض فقط الا بالحب .