كدت أجزم في أواخر عهد حسني مبارك أنه إذا ما أيقن من انهيار نظامه وكشف فساده سيلجأ إلي الورقة الأخيرة بإشعال فتنة طائفية علي طريقة «شمشون» عليّ وعلي أعدائي. . حدثت جريمة كنيسة القديسين فأكدت الظنون وداهمت الضمير المصري العام لكنها غيرت الحسابات الخسيسة للنظام السابق فقد انكشفت الحقائق للشعب وانتقل المصريون إلي التوحد والتراحم حباً واشفاقاً من هول ما رأوه من بشاعة وجه النظام، أعتقد أن أهم بذور الثورة المصرية ربما بدأ في القديسين، ظلت جريمة القديسين غامضة كما أرادوها وحتي الآن. جاءت ثورة 25 يناير لتعطي صورة تلقائية رائعة، لقد تحدثت مصر عن نفسها فعلاً لا قولاً فقط.. وكان حديث الميدان تجسيداً للحضارة والقوة والتحدي والتلاحم والفداء والوحدة الوطنية الكاملة، أزالت الثورة آنذاك من نفوسنا ذلك الكابوس المتوقع عن ثورة الجياع طالما خشيناها كما زال عنا بشكل حاسم مخاوف الفتنة الطائفية.. عرفنا أنها غريبة علي الشعب وأنها محض صناعة إجرامية لنظام باع كل شيء واستدار لبيع المصريين أنفسهم. بعد الثورة كان علينا أن نقرأ فساد الواقع الذي غرسه في كل البقاع عصابة الحزب الوطني.. كان من البديهي أن يثور الميدان ومرات مورات للمطالبة باقتلاع الفساد وتطهير البلاد لكن ذلك لم يحدث حتي ونحن علي أبواب انتخابات برلمانية مازال بعضهم يتساءل: هل نطبق قانون الغدر أم العزل؟.. إنها المعضلات الزائفة التي يحتارون في أمرها مع أن التغيير إلي الأسوأ يحدث كل يوم بسرعة مذهلة! إن آمال مصر في ثورتها الظافرة يتم إجهاضها بعنف وقسوة.. يتم جرنا عمداً وقسراً إلي دوائر الخوف والإحباط والتفكك واليأس.. كيف لا نخاف وقد فرض انعدام الأمن والانفلات الأمني علينا كأنه قدر لا فكاك منه بينما كل الحلول الآمنة مطروحة من المتخصصين والقيادات، يعد هذا الانفلات اللئيم هو أشد أنواع العقوبات قسوة وعنفاً يرجع بمصر إلي عصور قبلية مع غياب الأمن انطلقت أبواب انفلات آخر غير مسئول لتيارات متطرفة وبعضها كان محل اتهامات قانونية أعطي لهؤلاء حق قيادة الجماعات والأحياء والقري والمدن، كما منحوا - بالأمر الواقع - حق فض المنازعات بعد أن قاموا بتحقيقها، جماعات منحت نفسها حق إصدار الأحكام وحق تنفيذها ولم نسمع حديثاً من السلطة عن حق الدولة وسيادتها الواجبة. من مظاهر القسوة والعنف بشعبنا أن نسمع ونقرأ ونتأكد من ثروات هائلة لمبارك وأسرته ثم نري أن الحكومة المصرية لم تستعن حتي الآن بخبراء متخصصين في استعادة الأصول والأموال المسروقة.. إن هذه الأسئلة المطروحة تؤجج الغضب داخل النفوس وتصدر بالضرورة كل أنواع الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات التي أفرزها الإحساس بانعدام الثقة وغياب الشفافية وإضاعة الفرص علي الشعب. أموال المعاشات وهي بمئات المليارات التي أضاعها النظام السابق نفاجأ بالتصريحات الهزيلة والماكرة من المسئولين الحاليين فقط من حقنا أن نعرف أن أموال التأمينات آمنة وتضمنها الخزانة العامة، هكذا بدون تفاصيل! هذا لون من ألوان العنف والقسوة بالشعب واستمرار كل أساليب النظام السابق بشكل أكثر سوءاً وإجحافاً.. أهم مطالب الشعب في الديمقراطية والتطهير ومحاسبة الفاسدين ظلت تتلكأ إلي ما لا نهاية وتضغط علي الأعصاب وتصدر العنف المقابل إلي الشارع المصري، ومن عجب أن البلطجية والمسجلين خطر صاروا يتصدرون المشهد مع أن أعدادهم وعناوينهم معروفة.. إذا لم تقم السلطة الانتقالية بواجباتها في هذا الشأن فما هو الدور السامي الذي قامت به مما لا نعرفه؟ أخيراً وكإعلان فشل نهائي بدأت ملامح الفتنة الطائفية تطل بشكل يكاد أن يكون مدروساً ومكرراً.. تصل إلي يوم الأحد الحزين في 9 أكتوبر حيث تمت المجزرة التي قامت في اثر مسيرة الأقباط احتجاجاً علي هدم كنيسة في أسوان.. مسيرة مضت من شبرا إلي ماسبيرو وهي سلمية بشهادة الشهود الثقات.. ثم اعتراض المسيرة عند ماسبيرو بانقضاضة مدبرة ومؤامرة - لم يخبرنا أحد عن أطرافها - علينا أن نظن أنهم البلطجية وهذا عذر صار لا يستوجب البحث والتنقيب من جهتهم تماماً مثل الأمن الضائع وأموال مصر المنهوبة.. الأدهي ما تم من دهس عشرات القتلي تحت المدرعات مع جريمة إعلامية دعت الجماهير لإنقاذ الجيش المصري من أيدي المتظاهرين المسيحيين الذين يعملون للفتك بالجيش! أيضاً وقعت إصابات بين جنود القوات المسلحة، وقد ضمت هذه المظاهرات أعداداً من المسلمين المتضامنين بالضرورة مع المطالب والاحتجاجات القبطية. أتمني أن تخرج مثل هذه الاحتجاجات المشروعة من ميدان التحرير لتؤكد الاقتراح المسيحي الإسلامي الذي شهدناه في الثورة، في التحرير ستحظي أي مظاهرة بانضمام أكبر لكل أطياف الجماعة الوطنية، إن المسيحيين في مصر ليسوا مجرد فئة أو رأي موحد مثل أولئك الذين يتجمعون في ميدان مصطفي محمود أو روكسي.. إنهم الجزء المكمل لنسيج الأمة وهم منتشرون في الوطن كله وبالتالي فإن الأفضل أن يحافظوا علي اندماجهم الطبيعي مع الكل مع حفظ كافة حقوقهم في التظاهر والاحتجاج. قد لا يتسع المجال هنا لتحليل الموقف من كل جوانبه ولكن من المؤكد وجود بعض المتطرفين علي الجانب المسيحي فضلاً عن الدور السلبي الهدام لبعض القنوات الفضائية الدينية من الجانبين وما تبثه من سموم تستوجب التدخل الإعلامي المسئول سواء كانت إسلامية أو مسيحية، هذه جملة اعتراضية لا تجعلنا نغفل عن الجريمة النكراء التي أصابت كل القلوب، لكنها جريمة ماسبيرو التي تجمع القلوب النقية من جديد وما أكثرها في مصر. إنها سياسات ترتكبها حكومة فاشلة وقيادات تندفع نحو الأخطاء بسرعة مذهلة وتستبطئ الصواب.. إن جريمة الداخلية في 28 يناير الماضي حين تركت البلاد بلا أمن ولا حماية لاتزال مستمرة بل إنها تفاقمت وازدادت ضراوة.. غير أن هذه المجزرة في ماسبيرو أعلنت فشل تصدير فتنة أو إحداث حرب أهلية بين المسيحيين والمسلمين تناثرت الأشلاء والدماء.. انطلقت الأبواق العدوانية لكن الحرب الأهلية لم ولن تحدث.. إن شهداء وجرحي ماسبيرو سواء كانوا من المواطنين أو الجنود ربما افتدوا مصر كلها مما جعلها تنطق بالحق وتشهد بأيدي الاتهام الثابت علي أسوأ جريمة عرفتها مصر في العصر الحديث.. لقد تولت كتيبة ضخمة من الإعلام الشريف والأصوات الوطنية العظيمة لتقديم دفاعها الجسور عن وحدة مصر وتشير إلي كل من تخضبت يداه بدماء مصرية أياً كان الدين واللون والعرق.. الكل يجفف دموع الضحايا وترتدي النخب السواد وتتوحد المسيرة من جديد.. الحرب الأهلية لم تقم ولن تقوم والجريمة التي حدثت في ماسبيرو ليست بالجريمة الكاملة لأنها أغفلت عاملاً مهماً وهو عظمة الشعب المصري.