في هذه الحقبة التاريخية الفارقة في مستقبل هذا البلد تتجلي أهمية المسارعة دون ابطاء في محاكمة قتلة الثوار مع الالتزام بكفالة كافة ضمانات وحقوق المتهم المكفولة دستوريا ودوليا وقانونيا، الأمر الذي يلقي بواجب علي عقول هذه الأمة وأساطين قانونها في بحث كيفية الوصول إلي هاتين الغايتين المحاكمة العاجلة العادلة وكفالة حقوق المتهم. أي لابد أن يكون هناك توازن بين احترام حقوق المتهم بارتكاب جريمة وبين حق المجتمع في العقاب اعمالا لمبدأ سيادة القانون التي تستظل به كافة سلطات الدولة في جميع مراحلها وأدقها. وتقتضي المحاكمة العادلة المنصفة وجود نظم سليمة، تقرر لتعقب الجريمة ومحاكمة فاعلها في سرعة بغير تسرع، وفي حزم بغير افتئات ولا تطرف، وإذا كان من مقتضيات العدالة أن يؤخذ المسئ بإساءته فإن من مقومات وجود هذه العدالة أن لا يؤخذ البرئ بجرية المسئ، وألا يكون من وسائل الوصول للعدالة تهديد الأبرياء أو الأعتداء علي الآمنين في حقوقهم وحرياتهم، بما يحقق توفير ضمانات الحق في محاكمة عادلة ومنصفة. وتمر المحاكمة العادلة المنصفة بثلاث مراحل الأولي منها هي (مرحلة ما قبل المحاكمة) وللمتهم في هذه المرحلة العديد من الحقوق وهي أن يعرف فور القبض عليه أو احتجازه سبب القبض أو الاحتجاز وماهية التهم الموجهة إليه، ولابد من معاملته أثناء الاحتجاز معاملة إنسانية تحترم كرامته كإنسان، ولا يجوز إخضاعه للتعذيب أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو الحاطة للكرامة، ويكون للمتهم الحق في الاستعانة بمحامي وأن يمثل علي وجه السرعة أمام قاض أو مسئول قضائي آخر للنظر في مشروعية القبض والإحتجاز، وبالنظر إلي الواقع في محاكمة الرئيس المصري السابق وأعوانه نجد مراعاة كافة هذه الحقوق معهم. ثاني هذه المراحل هي (مرحلة المحاكمة) وللمتهم في هذه المرحلة الحق في محاكمة عادلة خلال مدة معقولة ودون تأخير لا مبرر له أمام قاضيه الطبيعي في إطار من المساواة أمام القانون، وأن تنظر الدعوي نظرا علنيا منصفا، مع افتراض براءة المتهم إلي أن يثبت ارتكابه لها قانونا، وله في هذه المرحلة حقوق الدفاع كاملة غير منقوصة. وهناك فارق بين علنية المحاكمات وإعلاميتها، فالأصل في الجلسات علنيتها للجمهور لا الخصوم فحسب، وهذه قاعدة رئيسية أجمعت الشرائع الحديثة عليها في دور المحاكمة، لأن حضور الجمهور يجعل منه رقيبا علي عدالة اجراءتها مما يدعم ثقته في قضائها فهي نوع من الرقابة الشعبية علي عدالة الإجراءات أمام المحكمة، هذا فضلا عن أن سماع المتهم الحكم بنفسه وفي علنية قد يكون أدعي لتحقيق غاية الردع من العقاب علي أوسع نطاق ممكن، ولا يتعارض مع علنية الجلسة أن يحدد الدخول إلي قاعتها ببطاقات لاعتبارات تتعلق بضيق المكان، أما إعلامية المحاكمات وهي بث المحاكمات في وسائل الإعلام فذلك وإن كان فيه شفافية إلا أنه في مرحلة ما قد يؤثر علي القاضي في عمله، فضلا عن بث شهادة الشهود علي الهواء قد يعرض حياتهم للخطر، وقد يضلل الشاهد – نفسه - بشهادته الرأي العام ابتغاءً لفوضي يريد تحقيقها تعطيلا للمحاكمة. ثالث هذه المراحل هي (مرحلة بعد المحاكمة) وللمتهم في هذه المرحلة الحق في التقاضي علي درجتين وإمكانية الطعن علي الأحكام أمام محكمة أعلي، وله الحق في التعويض إذا كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني. ويجدر القول بأن مصر كانت سباقة في إجراء هذه المحاكمة الفريدة بما تمتعت به من جميع الضمانات القضائية للمحاكمة العادلة إمتدادا لدورها التاريخي باعتبارها مهد الحضارات وأقدم من وضع النظم القانونية والتنظيم القضائي بمفهوم الدولة الحديثة، فمما لاشك فيه أن محاكمة الرئيس السابق وأعوانه أمام القضاء الوطني هو تأكيد لمبدأ سيادة القانون ومبدأ سيادة الدولة علي إقليمها، وتتجلي أهمية هذه المحاكمة التاريخية في تقديم الرئيس السابق وأعوانه إلي المحكمة وعدم محاكمتهم غيابيا كما يحدث الآن مثلا في تونس، ومن هنا تتجلي أثر هذه المحاكمة الفريدة والسباقة في العالم حيث أنه وإن وجدت محاكمات دولية للعديد من قادة الدول في العالم أمام محاكم جنائية دولية بما يعتورها من مشكلات في التنفيذ مرتبط بسلطة المجتمع الدولي في توقيع الجزاء، فهناك صعوبة في مثول القائد المتهم أمام عدالة المحكمة الدولية، وهذه الصعوبة لم تتحقق في الحالة المصرية. وأؤكد في نهاية الأمر أن موضوع محاكمة القادة والرؤساء هو موضوع الساعة وسيظل في بؤرة اهتمام رجال القانون والسياسية، وخير شاهد علي ذلك هو ما شهدته بعض المناطق في الأونة الأخيرة وما حدث تحديدا في مصر وتونس وما يحدث الأن في سوريا ليبيا واليمن والبحرين والصين والمملكة البريطانية والهند من جرائم وطنية ودولية ترتكب ضد المدنيين تحت بصر وسمع ومساندة قادة هذه الدول وكبار مسئوليها، لذا لابد من وضع حداً لكل قائد أو رئيس دولة فى تعامله مع شعبه وحتى المتمردين منهم والثوار، فهم ليسوا ملكاً له يفعل فيهم ما شاء من جرائم قتل وتعذيب وغير ذلك من جرائم وطنية ودولية، بل يجب عليه الالتزام بكافة قواعد وأحكام القانون الوطني، والقانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الإنساني فى تعامله معهم على نحو قد يؤدي إلى تناقص الفظائع والجرائم التى ترتكب ونراها بأعيننا يومياً وفى العديد من مناطق العالم. ولم يعد متقبلا بعد ثورة 25 يناير وما أحدثته من تأثير في تكوين الرأي العام المدرك لحقوقه والمدافع عنها باعتباره من أهم ضمانات الحقوق والحريات إفلات أي شخص ارتكب جريمة من العقاب لا فرق في ذلك بين رئيس أو مسئول وغيره من سائر المواطنين، وقد بدأ القضاء الجنائي المصري أولي هذه الخطوات بتقديم الرئيس المصري والمسئولين المصريين للمحاكمة الجنائية، وهو يعتبر السباق في هذا الشأن، كما بدأت المحكمة الجنائية الدولية علي المستوي الدولي في إجراء محاكمة للعديد من القادة العسكريين والمدنيين بخصوص حالات جمهورية الكونغو وأوغندا وجمهورية أفريقيا الوسطي وكينيا وساحل العاج والسودان وليبيا. ----------------------- الخبير في القانون الجنائي الدولي