انقسمت التوقعات بشدة حول مستقبل إيران عقب صدور قرار إلغاء العقوبات الاقتصادية التي سبق أن فرضت على إيران عقب صدور تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية (222016) الذي تضمن إبراء ذمة إيران من شبهة السعي لامتلاك أسلحة نووية. كثيرون تفاءلوا بأن علاقة إيران مع العالم سوف تتغير للأفضل، وأن ما سوف يتوفر لها من قدرات اقتصادية ضخمة بعد إلغاء العقوبات سوف يوظف لمصلحة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن التيار الإصلاحي الذي يستند في حركته السياسية إلى النجاحات الضخمة التي حققها الرئيس الإيراني حسن روحاني، وبالذات نجاحه في إنهاء أزمة البرنامج النووي الإيراني، ورفع العقوبات الاقتصادية، سوف يستعيد قدرته مجدداً، وسوف يعود بقوة إلى قيادة الدولة عبر مشاركة قوية وفعالة في الانتخابات المفصلية التي ستجرى يوم 26 فبراير/شباط 2016 لمجلس الشورى (البرلمان) و«مجلس خبراء القيادة» المسؤول عن انتخاب وإقصاء المرشد الأعلى للجمهورية. خصوصاً أن هذا المجلس الأخير الذي تمتد صلاحية عضويته عشر سنوات (يتكون من 88 عضواً ينتخبون انتخاباً مباشراً من الشعب)، سيكون لديه فرصة انتخاب المرشد الجديد للجمهورية البديل للسيد علي خامنئي البالغ من العمر 76 عاماً، ونجاح الإصلاحيين في الحصول على أغلبية هذا المجلس، والدفع بمرشحين أقوياء في المكانة والسمعة ستعطي لهم الدور الأهم في اختيار المرشد الجديد، ومن ثم تحديد مستقبل إيران، بل ومستقبل ولاية الفقيه، بعد بروز آراء واجتهادات على لسان رموز وطنية كبيرة، أمثال علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام رئيس الجمهورية الأسبق، الذي بادر في الأسابيع الأخيرة بانتقاد قاعدة انتخاب المرشد الأعلى مدى الحياة، كما طالب بأن يكون لمجلس خبراء القيادة حق تقييم وانتقاد مواقف وتعليمات وسياسات المرشد الذي يقبض على كل مفاصل السلطة، بل إنه تجاوز ذلك وطالب مجدداً بأن ينتخب الشعب «زعامة جماعية»، أو «مجلساً لولاية الفقيه» بدلاً من انتخاب شخص واحد يكون له الرأي النهائي والحاسم وحده، من دون أي مشاركة أو محاسبة أو تقييم من أي جهة لمنصب «الولي الفقيه» أو «الزعيم». هذا التفاؤل لم يمنع المتشائمين من توقع حدوث تطورات عكسية. كثيرون رجحوا أن يدفع رفع العقوبات التيار المحافظ المدعوم من الحرس الثوري بإجراءات مضادة تحت دعوة حماية الثورة والنظام الإيراني من مخاطر الانفتاح الثقافي والفكري والإعلامي على الغرب، الذي سوف يصاحب حتماً الانفتاح الاقتصادي، الأمر الذي يفرض اتخاذ إجراءات وقائية تحول دون تمكين الأمريكيين والغرب من التغلغل الفكري والثقافي داخل إيران لاحتواء وتقويض نظام الجمهورية الإسلامية، كما ظهرت توقعات ترجح أن يستولي العسكريون والحرس الثوري على الوفورات المالية التي سوف تنتج عن رفع العقوبات للتمدد الثوري في الخارج ودعم الحلفاء والمزيد من التدخل في الشؤون الداخلية. تعقد علاقات إيران مع جوارها الإقليمي، والعربي على وجه الخصوص، زاد من تحسبات وتخوفات أطراف الصراع الداخلي في إيران، وبالذات لدى أنصار التيار المحافظ، وعلى رأسه المرشد الأعلى السيد على خامنئي الذي عبر مبكراً عن تخوفاته من أن يحدث تحالف بين الأمريكيين وقيادة التيار الإصلاحي داخل إيران لتوظيف الانفراج المحدود في العلاقات الأمريكيةالإيرانية الذي صاحب مفاوضات حل أزمة البرنامج النووي الإيراني لإحداث تحولات داخلية درامية تريدها واشنطن، وتحقق أطماع الرئيس الأمريكي أوباما في احتواء النظام الإيراني وتمكين الإصلاحيين من السيطرة على السلطة والانحراف بالنظام السياسي للجمهورية الإسلامية. فقد حض السيد خامنئي (412016) على «ضرورة رفض المرشحين غير الصالحين لانتخابات مجلس خبراء القيادة ومجلس الشورى»، وتعهد بأن «يحبط الشعب الإيراني العظيم تربص الولاياتالمتحدة بالاقتراع»، وحذر من مآرب الأمريكيين من وراء الانتخابات الإيرانية المقبلة، معتبراً أنهم (الأمريكيون) يسعون إلى إبعاد المجتمع الإيراني عن أهداف الثورة وتقريب إيران من أهدافهم، كما أكد أن الأمريكيين «يتربصون بالانتخابات من أجل تحقيق أهدافهم، لكن الشعب الإيراني العظيم والواعي سيتصدى لمآرب الأعداء، وسيوجه لكمة إلى أفواههم كما فعل سابقاً». هذا الربط، على لسان خامنئي، بين الانتخابات وبين ما أسماه ب «مآرب أمريكا» جاء ضمن الحملة المبكرة التي شنها ضد «التخوف من تغلغل النفوذ الأجنبي» في ظل قناعة مؤداها أن رفع العقوبات عن إيران سوف يدفعها إلى الاندماج في الاقتصاد العالمي والانفتاح على الاقتصادات الغربيةالأمريكية والأوروبية على وجه الخصوص، كما أن هذا الانفتاح سوف يدفع إلى تدفق السلع الاستثمارية والاستهلاكية الغربية، وسوف تتدفق معها الأفكار السياسية والثقافية الغربية التي تتعارض مع أفكار الثورة الإسلامية وتستهدف تقويض نظام الجمهورية الإسلامية. وكان طبيعياً في ظل هذه الهواجس المتبادلة بين الطرفين أو التيارين الأساسيين المتصارعين على مستقبل إيران، أن يسعى كل منهما إلى كسب معركة انتخابات مجلس الشورى ومجلس خبراء القيادة، لذلك بادر قادة الإصلاحيين والمعتدلين، خاصة هاشمي رفسنجاني والرئيس حسن روحاني والرئيس الأسبق محمد خاتمي، إلى لملمة شمل قوى التيارين الإصلاحي والمعتدل، فأخذ رفسنجاني وروحاني ومعهما حسن الخميني حفيد الإمام الخميني، مبادرة التقدم لعضوية مجلس خبراء القيادة، وتعمد رفسنجاني فتح ملف «ولاية الفقيه» والدعوة مجدداً، كما ذكرنا، إلى «الولاية الجماعية»، كما تعمد شن هجوم عنيف على حكومة الرئيس السابق أحمدي نجاد التي دعمها خامنئي واتهمها بالإخفاق في تنفيذ خطط التنمية بما يتوافق مع السياسة العامة للبلاد، واتهم بعض المحسوبين على التيار المحافظ بالعمل على عرقلة تطور البلاد بحجة «الخوف على مستقبل الثورة لتحقيق أهداف سياسية وانتخابية»، كما بادر التيار الإصلاحي بدعم من الرئيس الأسبق محمد خاتمي إلى عقد مؤتمر أعلنوا فيه عن أنفسهم كقوة صاحبة رؤية مستقبلية لتطوير البلاد، وأصدروا بياناً عبروا فيه عن هذه الرؤية. من أبرز الأفكار التي وردت في هذا البيان كانت الدعوة إلى وجوب الاعتراف بالحقوق الشرعية والقانونية لكل الأعراق والأديان (لكسب دعم هذه الأقليات)، وإلى التطبيق الكامل للدستور، وتجنب أي نهج مقيد وانتقائي إزاء مواد فيه، كما نبهوا إلى الحاجة إلى تهيئة الأجواء لتشجيع أعلى نسبة مشاركة في الانتخابات المقبلة ونبذ وسائل تقييد حق الشعب في الاختيار، وتأمين سباق نزيه وقانوني وتنافسي، كما دعوا إلى احترام القادة الإصلاحيين، وإلى مكافحة الفساد والاحتكار، واحترام الحقوق الشرعية للمرأة، لكن أهم إجراء اتخذه الإصلاحيون كان التقدم بترشيح ثلاثة آلاف مرشح لانتخابات مجلس الشورى (عدد أعضاء المجلس 290 عضواً) لتأمين أعلى نسبة تمثيل والتحسب لشطب أعداد كبيرة على أيدي مجلس صيانة الدستور الخاضع لسيطرة أعتى المحافظين الموالين للمرشد الأعلى. وجاء الرد الحاسم والمباغت للمحافظين على أيدي اللجنة المكلفة من مجلس صيانة الدستور بالبت في أهلية عضوية المرشحين حيث قاموا بإقصاء 60% من أجمالي المرشحين لانتخابات مجلس الشورى من بينهم 2970 مرشحاً إصلاحياً أي أنهم رفضوا 99% من المرشحين الإصلاحيين ولم يبقوا لهم غير 1% فقط أي 30 مرشحاً، كما تم استبعاد 55% من المرشحين لمجلس خبراء القيادة على رأسهم حسن الخميني، الأمر الذي أثار غضب رفسنجاني وروحاني وفجر أزمة لم تتوقف أصداؤها بعد، لكنها حسمت مبكراً الإجابة عن سؤال من سيحكم إيران، على الرغم من التراجع الجزئي لموقف مجلس صيانة الدستور الذي عاد يوم الجمعة (522016) ليعلن قبول 25% ممن سبق إبعادهم من المرشحين، فهذه الانتخابات لن تكون، حتماً، الإجابة النهائية، فهذا الإقصاء القاسي للإصلاحيين في ظل نجاحاتهم التي حققتها حكومة الرئيس روحاني سوف تفاقم من عنف الأزمة السياسية التي ستكون الانتخابات هي أول معاركها المقبلة. نقلا عن صحيفة الخليج