أشرنا فى المقال السابق الذى حمل عنوان «الثورة والديمقراطية والجيش» إلى الارتباك خلال الفترة الانتقالية ثلاثي الأبعاد «سياسي - حزبي - دستوري» والذي شهدته البلاد خلال الفترة الانتقالية. لقد اتفقت جميع التحليلات السياسية والاستراتيجية علي أنه حين يواجه النسق السياسي توترات شديدة ويضعف استقراره.. أو أن تشهد البلاد ثورة شعبية تطيح بالنظام السياسي القائم ولا تطرح بديلاً سريعاً لقيادة البلاد في مرحلة ما بعد الثورة لترسيخ نظام سياسي جديد شامل يحل محل القديم.. فإن العسكريين يصبحون قوي كبري.. بل قوة رئيسية للعمل أو المشاركة علي استقرار النسق الجديد. وهناك أمثلة لذلك وتعد يوغوسلافيا 1971 - 1972 وبولندا 1981 - 1982 مثالاً لذلك.. فإنهما لم تتحولا كلياً للسيطرة العسكرية. ولكن في كلا البلدين - وبالأخص بولندا تدخلت القوات المسلحة في السياسة الداخلية بشكل كبير ولكنهم ظلوا أوفياء بالعهد لمبدأ السيادة المدنية، وضمن العسكريون لأنفسهم صوتاً أقوي في كل أمور السياسة. وتتركز التفسيرات السببية للتدخل العسكري ضد السلطات المدنية إما علي خصائص النظم العسكرية وإما علي عوامل غير عسكرية أوسع نطاقاً. ولعل ما تشهده مصر بعد الفترة الانتقالية التي يديرها المجلس الأعلي للقوات المسلحة باعتباره أولاً كان حامياً لثورة شعبية أطاحت بالنظام السياسي الذي كان قائماً أم باعتباره ثانياً يمثل القوات المسلحة التي هي بالتعريف الدستوري جيش الشعب وليس النظام حتي ولو كان يأخذ أوامره من النظام باعتبارات دستورية. فإن الأمر بات يثير الارتباك، ما حدود التدخل العسكري وما رؤية النخب السياسية والقوي الاجتماعية في التعاطي مع المجلس الذي يدير شئون البلاد. لقد مالت دراسات طرز العلاقات المدنية العسكرية المتقدمة زمنياً إلي التركيز علي الترتيبات الصورية والدستورية، وإلي الاهتمام الضئيل بتعقد العلاقات الواقعية بين النظم العسكرية والمدنية، وكان من أعظمها شيوعاً دراسة الطرز التي ميزت بين تلك الأنساق التي ظل العسكريون فيها تحت سيطرة نظم ديمقراطية قائمة علي أسس دستورية، وأنساق خاضعة للسيطرة العسكرية. من الفرضيات الشائعة عن العسكريين في السياسة أن السبب الذي يحتاج إلي تفسير هو كيف تنشأ مشاركتهم السياسية. ومع أن هذا قد يصدق أحياناً إلا أن العسكريين قد يشركون أنفسهم في السياسة بطريقة أو بأخرى في حالات كثيرة، وكما تشير الدراسات العلمية فإن هناك سؤالين مستقلين هما: لماذا وتحت أي ظرف يحتمل إلي حد كبير أن يشتغل العسكريون بالنشاط التشريعي والسياسي المقبول دستورياً؟ ولماذا وتحت أي ظروف يحتمل إلي حد كبير أن يساند العسكريون أو يعارضون - تماماً أو بعض الشيء - السلطات المدنية. فهناك بالضرورة دور سياسي مباشر وغير مباشر للعسكريين.. فيما يخص التساؤل الأول، فإن الإطار الموضوعي للدور السياسي للعسكريين في دولة كمصر يفترض التطرق إلي عدد من النقاط أولاها تلك الخاصة بالتاريخ الوطني الثابت للجيش المصري منذ مرحلة مبكرة أهم معالمها الثورة العرابية التي قادها عسكريون وطنيون مثل عرابي والبارودي ومحمد عبيد ثم حرب فلسطين التي أبرزت أحمد عبدالعزيز وعبدالقادر طه وامتداداتها. حتي استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض في حرب الاستنزاف، إضافة إلي ثورة يوليو 1952م التي جسدت الدور الوطني للعسكريين المصريين رغم الاختلافات علي تقييم مرحلة ما بعد يوليو سياسياً واقتصادياً. أما النقطة الثانية فهي المتعلقة بكون الحركة السياسية المباشرة للجيش المصري قد اتخذت في الغالب صف الحركة الوطنية المدنية ولم تتخذ شكل قمع هذه الحركة أو الاستيلاء علي السلطة السياسية فيما يسمي بسلسلة من الانقلابات العسكرية علي نحو ما يحدث في بلدان أخري كثيرة مثل البرتغال ودولة أمريكا اللاتينية وبعض دول القارة السمراء. ومن هنا فالميراث العسكري المصري في التاريخ الحديث والمعاصر يؤكد أن العسكريين ينشغلون بالنشاط السياسي في حالات فراغ السلطة أو في المراحل الانتقالية أو إذا كانوا يمثلون ضلعاً من أضلاع ثورة شعبية، كما حدث في 1952م. أما متي يعارضون السلطات المدنية، فإن تاريخ العسكرية المصري الحديث لا يشير إلي ذلك، حيث إن المرة الوحيدة التي شكلوا بها نظاماً سياسياً هو نظام يوليو 1952م وهنا اختلطت الملامح العسكرية بالملامح المدنية وتم تشريع دستور كانت مضامينه مدنية إلي حدود بعيدة باستثناء أن رأس المؤسسة الرئاسية كان من العسكريين. sabrisaid–[email protected]