بقلم : د. فتحي النادي منذ 1 ساعة 31 دقيقة الصدفة البحتة قادتني إلي معرفة عالم كتب عنه الكثير ولكني لم أكن أتصور بشاعة الحقيقة ودلالاتها المخيفة.. قادني بحثي إلي التساؤل: هل لدينا حقيقة وزارة للداخلية ينتشر ضباطها وأمناؤها وجنودها في الشارع يحمون مصر ويؤمنون شعبها ويحفظون النظام ويتصدون للإجرام؟ بعد أن عرفت ما عرفت كانت الإجابة عن كل تلك الأسئلة بالنفي مع شديد الأسف لما أصابنا ولم يكن أبداً في الحسبان أن يحدث.. تبدأ فصول القصة العجيبة بنداء علي إحدي شبكات التواصل الاجتماعي من شابة سرقت سيارتها ترجو من أصدقائها أن يرشحوا لها بلطجياً تستعين به لكي تسترد سيارتها، ولما استفسر البعض منها عما إذا كانت جادة في طلبها أكدت بأنها تعني كل كلمة كتبتها.. كان يمكن لهذا الطلب أن يمر دون أن يلحظه أحد باعتباره شطحة من شطحات شباب الفيس بوك، ولكن الأعجب من الطلب نفسه أن تنهال علي صاحبته ردود من أصدقائها ومعارفها يبدون استعدادهم للمعاونة ومعرفتهم لبلطجية في مناطق مختلفة ليس في القاهرة وحدها بل في بعض محافظات وأقاليم مصر من أسوان إلي الإسكندرية.. وقد يظن القارئ أن صاحبة هذا الطلب الغريب تنتمي إلي فئة في المجتمع تؤمن بهذا الأسلوب في التعامل مع مشاكلها، ولكن الغريب أننا نتحدث هنا عن شابة متعلمة صاحبة مركز وظيفي مرموق ومن أسرة تحتل مكاناً متميزاً أعلي السلم الاجتماعي للطبقة الوسطي في مصر.. الصدمة التي لم أكن أتوقعها كانت حين طرحت هذا الموضوع للنقاش وتساءلت عن مدي انتشار تلك الثقافة المدمرة لكل قيم المجتمع المصري وفوجئت بأنها تكاد تكون نمطاً وسلوكاً يعتنقه كثير من المصريين هذه الأيام، بل إني عرفت - وتلك هي الطامة الكبري - أن عدداً ممن تعرضوا للسرقة حين يذهبون إلي أقسام الشرطة لعمل محاضر ينصحهم الضباط «بعدم إضاعة وقتهم» والبحث عن بلطجي، ويتطوع الضباط زيادة في الخدمة بترشيح أفضل البلطجية لأداء المهمة.. كان ذلك كما علمت يتم في الماضي علي استحياء ولكنه أصبح الآن نمطاً سائداً يعتبره الكثيرون أمراً طبيعياً يعيد إليهم حقهم نظير إتاوات يدفعونها للبلطجية. مصر إذن تعيش منظومة بلطجة تتعاون فيها مع الشعب ويتولي فيها البلطجية مقاليد الأمور ويشكلون جيشاً من المرتزقة تضاعف عدده بهروب الآلاف من البلطجية من السجون يعمل أفراده مع من يدفع أكثر، ويحددون السعر الذي يتناسب مع المهمة، ويبتزون من يلجأ إليهم - أحياناً بعلم الشرطة - باعتباره مصدراً دائماً للاسترزاق.. الآن تأكد ما نشر عن دولة البلطجية داخل مصر أثناء انتخابات 2005 و2010 من أن مرشحى «الحزب اللا وطني» لم يعودوا يستخدمون البلطجية لتقفيل الصناديق فقط وإنما لترويع وتجريس منافسيهم في الانتخابات، وأن أجر البلطجي يتوقف علي نوع «الجرسة» والضرر من خلال شبكة تجمع عصابات البلطجة في مصر وتستعين ببعضها البعض لإنجاز العمل المطلوب في كل أنحاء المعمورة التي سوف تصبح قريباً «مخروبة» لو لم نتصد لمثل تلك الممارسات وتركنا مصر تعيش بدون شرطة كما هو حادث الآن.. المؤشر الأخطر والمؤكد في تلك المنظومة أن هناك عناصر فاسدة في جهاز الشرطة لابد من كشفها وتطهير الجهاز منها تعمل لدي البلطجية وتمدهم بالزبائن من المواطنين وتقتسم معهم الغنائم وعائد البلطجة نظير عدم الإبلاغ عنهم والقبض عليهم، ويساعدون علي تطوير منظومة البلطجة إلي التخطيط لسرقات في مناطق مختلفة ولجوء الضحايا إلي الشرطة لتحميهم فتسلمهم إلي البلطجية وهكذا. واقع الأمر أن الشرطة تعرف من هم البلطجية وأنها تستطيع أن تجمعهم في أيام وتضعهم خلف القضبان أو تعزلهم في مشروعات تنموية تحتاج إلي عمالة كثيفة مثل تعمير الصحاري أو شق الترع وتنظيف المصارف.. السؤال الآن: لماذا لا تفعل الداخلية ذلك وعلي رأسها وزير محترف؟ والإجابة واضحة وهي أن بعض الفاسدين من عناصر الشرطة ممن تربطهم بالبلطجية «اتفاقية تآخي» لهم مصلحة في بقاء الحال علي ما هو عليه إما بغرض الكسب المادي من الترويج للبلطجة ما أوضحنا، أو للراحة من عناء أداء عمل رسمي لا يدر عليهم الحد الأدني الذي يكفل لهم حياة كريمة، أو لولائهم لنظام الفساد الذي أطاحت الثورة برؤوسه ولايزال الذيول والأتباع يرتعون في مؤسسات الدولة وأخطرها يخططون لتفشي حالة الانفلات الأمني وإشاعة الفوضي وتعطيل القانون.. في كل الأحوال نحن أمام وضع خطير يقتضي قراراً حازماً وفورياً بتطهير الشرطة وعدم الخجل من كلمة تطهير لكل من تثار حوله علامات استفهام أو معلومات تفيد تورطه في تشجيع الخروج علي القانون بأي صورة من الصور.. مسئولية إحداث التطهير تقع علي عاتق مجلس الوزراء الذي ينبغي أن يعلن عن موعد ملزم لوزير الداخلية الحالي لاستكمال البناء المؤسسي لجهاز الشرطة وانتشارها بكامل قواتها في كافة ربوع الوطن أو إقالته واستبداله بآخر يفعل ذلك، وأن يخصص المجلس العسكري خطاً ساخناً يتلقي شكاوي فساد الشرطة ويحولها إلي جهاز يتبع رئيس المجلس مباشرة ويضمن حماية المبلغ، ولكن العبء الأكبر في التطهير يقع بالدرجة الأولي علي الناس أنفسهم ويصديهم بشجاعة لكل أعمال البلطجة والإبلاغ الرسمي عن أي واقعة دون خوف من قلة منحرفة تسيء إلي جموع شرفاء الشرطة.