تونس والمغرب يحتفلان، هذه السنة، بمرور 60 سنة على استقلالهما من الاستعمار الفرنسي، وبمقدور لبنان أن يستذكر 90 عامًا على ولادة أول دستور وضع للبلاد، ولا يزال يثير الجدل، حتى بعد تعديله في «اتفاق الطائف»، ويرغب بعض اللبنانيين في الانقلاب عليه من جديد. المناسبات هذه السنة كثيرة، وشديدة الرمزية للعرب. لكن أكثرها حساسية والذي يستحق من الآن، جهد دراسته وتحليل مخاطره، ومنزلقاته وبدائله المحتملة، هو اتفاق «سايكس – بيكو» المشؤوم الذي من المفارقات العجيبة، أننا ما عدنا نعرف إذا كان لا يزال ساري المفعول أم أنه استتبع بآخر أشد سرية منه. وتعود الذكرى المئوية لتلك الاتفاقية، التي جرى بموجبها تقاسم أراضي الإمبراطورية العثمانية، بين بريطانياوفرنسا، وقد نسفت فعليًا كثيرا من الخطوط التي رسمها، الدبلوماسيان الشهيران، الفرنسي فرنسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، بالتفاهم مع روسيا القيصرية قبل وصول الشيوعيين إلى الحكم. الضبابية اليوم، في ظل عصر المعلومات لا تقل عن التي عاشها أجدادنا مطلع القرن الماضي. دموية الاتفاقية، رغم أنها أتت على نظام امتد إلى ما يزيد على ألف سنة من الخلافة وما استتبعها، لا تبدو شيئًا أمام مجازر الحاضر، التي يصعب حصر عدد ضحاياها. مقابل 700 ألف لاجئ، شردهم قيام إسرائيل استتباعًا لسايكس - بيكو، عام 1948، تتحدث الإحصاءات الأخيرة ل«المفوضية العليا للاجئين» عن 60 مليون لاجئ - وهو أكبر رقم لمشردين عرفه التاريخ الحديث - تركوا بيوتهم عنوة، وتفرقوا في بلاد الله الواسعة. أربعة آلاف منهم، لقوا حتفهم، وهم يعبرون البحار، بحثًا عن ملاذ، بينهم أطفال ونساء. ماذا بقي حقًا، من «سايكس - بيكو»؟ أي حدود ظلت صامدة، أمام مد الحروب والنزاعات، التي ما عدنا نعرف فيها، من يقاتل من؟ ومن أجل ماذا؟ في ليبيا سلطتان! وسوريا مجموعة من النتف، صار إعادة جمعها، أصعب من تركيب أجزاء «البَزِل». العراق يترنح تحت ضربات التقسيم والتناتش، منذ قررت أميركا أن الجيش العراقي ممهور باسم صدام حسين، ويجب أن يذهب معه ويؤتى بغيره. جاء تنظيم داعش بإعلان دولته المزعومة، كالشعرة التي قصمت ظهر البعير. سقطت الحدود الفاصلة بين سورياوالعراق لترتفع غيرها، متغيرة متبدلة تبعًا للظروف وانتصارات الأطراف. ولتعلن إمارات وولايات، ما عدنا ندرك الافتراضي منها من الواقعي. «ولاية سيناء» الهلامية تسقط طائرة روسية، وتقتل 224 شخصًا؟! يتساءل العالم هل يملك أصحاب الولاية، حقًا، صواريخ مضادة للطائرات؟ كتب الجغرافي الفرنسي كريستوف نوف، بعد الانتصارات التي استولى من خلالها تنظيم داعش على أجزاء كبيرة من سورياوالعراق ملغيًا الحدود بينها يقول: «كل العمارة الجغرافية التي شيدتها اتفاقية سايكس - بيكو تتشظى منذ بداية صيف 2014، ومعها الحماية النسبية التي كانت تتمتع بها الأقليات الدينية في المنطقة». مخطئ نوف بالتأكيد، فالأقليات، حماها تسامح أهل المنطقة حين يتركون لعفويتهم، وسكينتهم، لا سلطة ما تبقى من استعمار. لم نفهم جيدًا، ونحن نرى المعاول تنهال على «جدار برلين» معلنة سقوط الثنائية القطبية، أن تسونامي التغيير قادم علينا جميعًا، ولن يوفر أحدًا. بعدها لم تتوحد 27 دولة أوروبية فقط، بل شهدنا أيضًا وعلى امتداد أطول، سقوطًا للأنظمة العربية ذات التوجه اليساري العلماني. البداية كانت من العراق، لكن ليبيا لم تسلم، ومثلها سوريا. سادة «سايكس - بيكو» وصنّاعه، ظنوا أنفسهم بمنأى عن النيران المشتعلة، واستكانوا للنصر الرأسمالي المظفّر. عجلة التاريخ بدت أسرع كثيرًا، مما توقعه البعض. «الشرق الأوسط الجديد» الذي بشرت به أميركا و«الفوضى الخلاّقة» صارت أوسع نطاقًا مما رسم لها. هاجت الجموع الهاربة وفاضت. مليون مهاجر اقتحموا القارة الأوروبية. عدد يزرع الخلافات بن دول الاتحاد، التي أصبحت بين مؤيد لاستقبالهم، ومعارض لإيوائهم. بريطانيا تتساءل عن جدوى بقائها في اتحاد لا يجلب سوى المعضلات. لم يكن متوقعًا من روسيا التي انهارت إمبراطوريتها منذ 27 سنة، أن تعود بأساطيلها وطائراتها، بهذه الجرأة، لتخوض حربًا عسكرية في سوريا، لم يكن منتظرًا من النمور الآسيوية أن تستشرس اقتصاديًا، وأن تنجح ماليًا، كما فعلت في السنوات الأخيرة. وأن ينهض تجمع دول «البريكس» بما يمثله من قوة اقتصادية هي الأسرع نموًا في العالم. وحدها أميركا على ما يبدو، بدأت الخروج من الأزمة المالية العالمية الكبرى التي ضربت الغرب عام 2008 وأعلنت الدول الصناعية الثماني دخول مرحلة الركود التي لا تزال ظلالها ثقيلة. ما كان من المتصور، أن يمتد الإرهاب من المشرق المسلم إلى الغرب المحصن بالسرعة والاستعراضية المهينة التي رأيناها، لدولة كبرى ذات هيبة مثل فرنسا. أو أن تشل الحركة خوفًا من إرهابيين، في عواصم تفاخر بتماسك أمنها، وأن تلجأ دول أوروبية إلى إسقاط بند من اتفاقية شينغن، ولو مؤقتًا، وإغلاق الحدود أو تفتيش العابرين، كما يحدث على حدود دول العالم الثالث. مائة سنة من سايكس - بيكو، تغير العالم كثيرًا، ولا تزال العقليات الحاكمة هي نفسها، والمؤامرات الدبلوماسية تحاك في ظلمات الغرف المغلقة. بعد خمس سنوات على قتل بن لادن، تعاظم الإرهاب وملأ العالم رعبًا وهلعًا. صارت الجيوش العربية المستهدف الأول، للجماعات المتطرفة، التي تحلم بإقامة دولتها. جماعات مسلحة متشظية متقاتلة، متنافسة، تكفر بعضها بعضًا. «الدولة الإسلامية» حلم، تمامًا كما كانت «القومية العربية» التي من أجلها تخلى العرب عن الدولة العثمانية، وتبنوا «البعثية» و«الاشتراكية»، وكل آيديولوجيا وفكرة يمكن أن توصلهم إلى مبتغاهم. حلم «الدولة الإسلامية» ليس أقل شراسة، لكنه أكثر رومانسية، مع غياب الرؤيا الحكيمة، والنظرة العصرية الواقعية. العرب لا تنقصهم الأحلام الجميلة، والغايات النبيلة. العرب مسكونون بالتمنيات والأحاسيس الجياشة، التي يستعيضون بها عن التخطيط العلمي، والدراسات الاستراتيجية الجامعة الطويلة الأمد. مائة سنة من «سايكس - بيكو»، وعود على بدء. نقلا عن صحيف الشرق الاوسط