فى عام 1916، اتفقت إنجلترا وفرنسا على اقتسام الممتلكات العربية للدولة العثمانية بعدما اختار العثمانيون الانحياز إلى الجانب الخطأ فى الحرب العالمية الأولى. اتفق الدبلوماسيان الفرنسى جورج بيكو والبريطانى مارك سايكس على مستقبل المنطقة، فرسما حدوداً لم تكن موجودة، وأنشآ دولاً جديدة، فكان أن ظهرت لأول مرة فى التاريخ دول تحمل أسماء العراقوسوريا ولبنان والأردن، أما فلسطين فقد ظل وضعها غامضاً بين طموحات اليهود ومقاومة العرب ومخططات البريطانيين وترددهم، حتى آلت إلى المصير الذى وصلت له اليوم. رفض العرب التقسيم الاستعمارى للمنطقة، ورفضوا معه الدول الجديدة التى منحها لهم المستعمر تحت رعايته ووصايته، وظلت هذه الدول الجديدة فى العقل السياسى العربى كيانات مصطنعة صنعها الاستعمار لتعزيز مصالحه، وبقى العرب ينظرون إلى هذه الدول باعتبارها كيانات معدومة الشرعية لا تستحق البقاء. تزعمت التيارات الوحدوية العربية حملة التشكيك فى شرعية الدول العربية، كل الدول العربية، وليس الدول التى تأسست بموجب اتفاقية «سايكس - بيكو» فقط. حلم الوحدويون العروبيون بدولة عربية موحّدة تشمل كل العرب تحت حكمها، ودخلت أحلامهم حيز الاختبار عندما حكموا العدد الأكبر من الدول العربية الرئيسية فى الخمسينات والستينات وما بعدهما. حكم الوحدويون العرب سورياوالعراق، كما حكموا مصر وليبيا والسودان، ووجدوا دعماً قوياً وحكومات متعاطفة مع أفكارهم فى الجزائر وشمال اليمن وجنوبه، وانتشر مؤيدوهم فى كل بلاد العرب، فكانوا التيار الأيديولوجى الأهم فى العالم العربى طوال عقود ثلاثة، بما فى ذلك الفترة التالية مباشرة لرحيل الاستعمار والحصول على الاستقلال، فكان التيار القومى العربى هو المؤسس الأهم لدولة ما بعد الاستعمار المستقلة فى العدد الأكبر من بلاد العرب الرئيسية، وهو أيضاً التيار الذى يتحمّل المسئولية الأكبر عن كل خطايا الدول العربية وإخفاقاتها. حاول القوميون العرب تطبيق أحلامهم الوحدوية، ففشلوا فشلاً ذريعاً، مثل تأسيس دولة الوحدة بين مصر وسوريا فى عام 1958، فى ذروة صعود التيار الوحدوى، ووجه انهيارها فى عام 1961 ضربة قاصمة له. واصل الوحدويون العرب الكلام عن الوحدة العربية، لكنهم امتنعوا عن تكرار المحاولة، متذرّعين بكل ما أمكن من أعذار. صراعات القوميين العرب كانت أهم أساليبهم لتجنُّب تكرار تجربة الوحدة الفاشلة، دون أن يكفوا عن الكلام عن الوحدة. الصراعات بين «عبدالناصر» و«البعث»، وبين «البعث» فى العراق و«البعث» فى سوريا فى جوهرها لم تكن أكثر من مجرد مناورات لخلق أعذار تبرّر تهرّب الوحدويين من الوحدة التى جربوها ثم انقلبوا عليها. تخلى القوميون العرب عن حلم الوحدة عملياً، لكنهم تنافسوا فى إظهار الإخلاص لها عبر المبالغة فى إظهار الحماس للوحدة والتطرّف فى نزع الشرعية عن الدول القائمة. أسس القوميون العرب للازدواجية فى السياسة العربية، حيث القادة والدول يقولون شيئاً فيما يفعلون شيئاً آخر، وأسهموا بنجاح منقطع النظير فى تحويل الأفكار والأيديولوجيات إلى أشياء نظرية منبتة الصلة بالواقع، وفى تفريغها من كل محتوى مفيد، فذهبت كل الأفكار وكل الأيديولوجيات، وليس فقط أفكار القوميين العرب، ضحية لهذه الألاعيب، ولم يبق من مصداقية سوى لكلام الله المقدس فقط، فكان صعود الإسلاميين والدواعش. اختلف القوميون العرب والإسلاميون فى كل شىء، عدا رفض الدولة العربية القائمة وحرمانها من الشرعية. رفض الوحدويون العرب الدولة العربية لأنها تقسم العرب، ورفضها الإسلامويون، لأنها تقسم المسلمين. الصراعات الدائرة فى العراقوسوريا الآن هى أحدث محاولات الإسلاميين لوراثة التيار القومى العربى المهزوم، أما النتيجة المؤكدة لصراعاتهم وفشلهم فهى انقسام الدول العربية التى طالما رفضوها معاً. وعدنا القوميون العرب والإسلاميون بالوحدة، لكنهم لن يورثونا سوى دول أصغر بكثير من تلك التى تركها لنا الاستعمار. لم نعد بعيدين عن ذلك اليوم الذى سنرى فيه دولاً مستقلة للأكراد والشيعة والعلويين وعدة دول متصارعة للمسلمين السنة محل العراقوسوريا الحاليتين. عندما نرى ذلك الكابوس وقد تحقق على الأرض سنندم كثيراً على دول «سايكس - بيكو» التى ورثناها عن الاستعمار، تماماً كما يندم كثير من الفلسطينيين الآن على قرار التقسيم الذى بات حلماً بعيد المنال. لا أظن أن العراق أو سوريا قادرتان على البقاء دولتين موحدتين بعد كل الدمار الذى حدث، والدماء التى سالت، والكراهية التى تم زرعها فى النفوس. عندما يتقاتل السنة والشيعة فى العراق ويتبادلون التكفير والحرق والتفجيرات، وعندما يقوم الأكراد فى العراق بحرق معسكرات لجوء السنة الذين نزحوا إلى كردستان بحثاً عن الأمن، وعندما ترفض سلطات بغداد دخول اللاجئين السنة من أهل الرمادى إلى بغداد، وتتركهم فريسة لوحشية «داعش»، فإن هذا بلد لا يمكن لأهله أن يتعايشوا مرة أخرى، ولا يمكن له استعادة وحدته ثانية. عندما يرفض أكراد سوريا محاربة «داعش» قبل الحصول على ضمانات للاستقلال الذاتى من بقايا حكومة دمشق، وعندما يركز ما بقى من نظام الأسد البعثى ذى الأصول القومية العربية دفاعاته حول إقليم العلويين الساحلى والطرق التى تربطه بدمشق، فإنه يعلن بهذا تسليمه بانتهاء سوريا الموحدة، وتسليمه بسوريا المنقسمة طائفياً وعرقياً. لم يرضَ القوميون العرب والإسلاميون بدولة المواطنين التى كانت ممكنة، وأرادوا استبدالها -هذا بدولة العرب، وذاك بدولة المسلمين- فأورثونا دول الطوائف والعرقيات المتناحرة. نجت مصر من مصير دول المشرق المظلم، وعليها أن تستعد -ومعها من بقى من دول العرب- للتعامل مع العالم العربى فى خريطته الجديدة. قد نواصل الحديث عن الاستقرار والوحدة فى سورياوالعراق، وهذا جيد من باب الكياسة واللياقة، ولكن علينا ألا نصدق أنفسنا، وأن ننتقل بسرعة لمرحلة البحث عن الأمن والمصلحة فى عالم ما بعد «سايكس - بيكو».