أتبنى منذ عدة سنوات فرضية أن الثورة المصرية غير المكتملة أطلقت حرية الإعلام، ما ساعد في خلق مجال عام حيوي اتسم بالتنوع والانتشار وقوة التأثير، لكن هذه الحرية حملت نقيضها، وأدت إلى حالة من الفوضى الإعلامية وتراجع مستويات الأداء المهني وغياب مواثيق الشرف الإعلامي، والأخطر تراجع التنوع الحقيقي في الإعلام وهيمنة إعلام الصوت الواحد، والمفارقة أن هذا التحول حدث من دون تدخل مباشر أو خشن من الدولة التي استعادت عافيتها بعد انتخاب عبدالفتاح السيسي رئيساً للجمهورية. هناك أسباب كثيرة تفسر حالة الفوضى في الإعلام المصري، أهمها ضعف التشريعات والقوانين المنظمة، وعدم وجود نقابة للعاملين في الإعلام المرئي والمسموع، وعدم تفعيل مواد دستور 2014 الخاصة بتنظيم الإعلام وحرية الرأي والتعبير وحق الحصول على المعلومات، علاوة على هيمنة حفنة من رجال الأعمال – بعضهم يتزعم أحزاباً - على القنوات والصحف الخاصة التي أصبحت الأكثر انتشاراً وتأثيراً مقارنة بإعلام الدولة، والشاهد أن فوضى الإعلام تثير انتقادات الرئيس السيسي والجمهور والإعلاميين أنفسهم الذين يشعرون بمخاطر تراجع مكانة الإعلام المصري وصدقيته. إن الخطاب الإعلامي في مجمله، وعلى مستوى القول والممارسات الفعلية، لا ينقل الأخبار والمعلومات بمهنية للجمهور، أو ينشر مختلف الأفكار والآراء، ومن ثم فإن معظم ما ينشر في الصحف أو يبث من الإذاعة والتلفزيون في مصر لا يحقق الوظائف الحقيقية المتعارف عليها للإعلام والتي تدرس في كليات الإعلام وتمارس في وسائل الإعلام وتحددها مدونات السلوك والسياسة التحريرية وقواعد العمل الداخلي، لذلك يبتعد الخطاب الإعلامي كثيراً عن القواعد المهنية للإعلام، وعن مقتضيات المنطق والتفكير العقلاني، ويهدد في بعض ممارساته المصالح الوطنية المصرية. باختصار، لا بد من عقلنة الإعلام المصري، وترشيد خطابه وتطويره، من خلال علاج سريع للمشكلات التالية: أولاً: المحلية والانغلاق على الذات الخطاب الإعلامي السائد مغرق في مصريته، لا يتابع ما يجري في العالم بدقة وعمق، ينقل فقط، وبانتقائية شديدة، بعض الأخبار والمعلومات عن أهم الأحداث الجارية في المنطقة العربية والعالم، ويهمل بقية أخبار العالم بما في ذلك أفريقيا وأميركا اللاتينية، ومن النادر أن ينشر أو يبث تقارير أو آراء تفسر ما يجرى في العالم، لذلك قد يتلقى الجمهور أخباراً عما يجرى في سورية أو اليمن وليبيا، ويشاهد مآسي أشقائه العرب في هذه الأقطار، من دون أن يفهم المغزى والدلالة ومن يحارب من ولمصلحة من، ولا يمكنه مع تغير المواقف وتبدل مواقع أطراف الصراع أن يستوعب ما يجري، وبالتالي قد يزهد في المتابعة الإخبارية، أو يتابعها كشريط من الصور المأسوية غير المفهومة بالنسبة إليه، والتي يخشى أن تطال وطنه. ثانياً: مخاطبة الداخل والعجز عن مخاطبة العالم الخارجي. يركز الخطاب الإعلامي على الجمهور الداخلي، فيؤكد ليل نهار إرهاب «الإخوان» ورفض الشعب لهم، ومزايا الاستثمار في مصر واحترام القانون وحقوق الإنسان، لكنه لا يقدم هذه الأمور وغيرها من القضايا للرأي العام الخارجي، ربما لأنه لا يملك أدوات إعلامية قادرة على التواصل والتأثير في دوائر الرأي العام، وهذه كارثة تحتاج إلى حلول سريعة، وربما لأنه عاجز عن إنتاج خطاب مقنع ومتماسك. ولعل ما حدث أخيراً في أزمة سقوط الطائرة الروسية يوضح ما أقصد، فقد ركز الإعلام على إنتاج وترويج خطاب موجه نحو الذات والداخل، يحاول إقناع المؤمنين به، أي المصريين شعباً وحكومة، بأن موقفنا سليم، وأن شرم الشيخ آمنة وجميلة، ومن الممتع زيارتها. وهي حقيقة، لكن نريد أن تصل إلى الرأي العام الخارجي وليس إلى المصريين. ثالثاً: غلبة مواد الرأي على الأخبار والمعلومات. تهيمن الآراء والتعليقات على الخطاب الإعلامي، وبخاصة ما يبث في التلفزيون، على حساب المواد الإخبارية، مع ملاحظة أن كثيراً مما يبث كأخبار يتضمن آراءً ومواقف معلنة أو ضمنية، ويرجع ذلك إلى زيادة التسييس في الإعلام المصري، والخلط المتعمد بين الخبر والرأي، ومنح مقدمي البرامج حقوقاً غير مسبوقة في التعليق على الأحداث وطرح آرائهم، وانتقاد الأوضاع وأحياناً انتقاد الشعب نفسه، علاوة على التلاسن وتبادل الاتهامات والشتائم على الهواء مباشرة بين بعض مقدمي البرامج. رابعاً: تعدد الآراء من دون تنوع حقيقي. هناك مواد مختلفة للرأي، وتعدد كبير فيها من دون تنوع أو حوار، فالكل يدور في صندوق واحد من الأفكار والتصورات، ولا يسمح بالخروج عن هذا الصندوق في رواية أحداث الثورة، والموقف من «الإخوان» والإرهاب، وعلاقات مصر بواشنطن والعواصم الغربية، علاوة على تقييم الأداء العام للدولة. وإذا قام أحد ضيوف الشاشات أو مقدمي البرامج أو الكُتّاب بالخروج عن صندوق الأفكار والآراء المتداولة فلن يسمح له مرة أخرى بالظهور أو بالكتابة، وقد حدث ذلك لضيوف دائمين أو مقدمي برامج اختفوا فجأة ومن دون عودة. والمفارقة أن الحكومة أو الأجهزة الأمنية تبدو بعيدة عن ممارسة المنع أو الرقابة، حيث يقوم المسؤولون عن إدارة الصحف أو القنوات سواء عامة أو خاصة بعملية التهميش أو المنع، وفي بعض الأحيان يبالغ الإعلام الخاص في عمليات المنع تماماً، كما يبالغ في إنتاج وتداول الآراء المطلوبة أو التي يتصور أن الحكومة ترغب في ترويجها. خامساً: شيوع نظرية المؤامرة في التغطيات الإعلامية. تسود الخطاب الإعلامي قناعات ومقولات المؤامرة الخارجية على مصر والعرب والمسلمين، والتي يجرى إنتاجها وتداولها على نطاق واسع حتى أنها أصبحت جزءاً مهماً من التفكير العام، يستخدم للأسف كآلية لتبرير المشكلات الداخلية، وتقديم الدولة وأجهزتها وأحياناً المواطنين كأطراف مغلوبة دائماً على أمرها وغير قادرة على المقاومة أو الفعل الحر. سادساً: الإثارة والابتعاد عن العقل والمنطق. تنتشر على نحو غير مسبوق برامج المسابقات والطهو والبرامج الرياضية والبرامج الفضائحية بأنواعها من دون مراعاة للمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية للإعلام، ويتوازى مع ذلك منح فرص كثيرة لظهور أدعياء الثقافة والمعرفة بالاستراتيجيات الأمنية والعسكرية، حيث يقدم هؤلاء سيلاً لا ينقطع من المعلومات غير الصحيحة، والآراء السطحية التي تنم عن جهل أو ضيق أفق. ويشارك هؤلاء بعض مقدمي البرامج الذين يطلقون أحكاماً عامة خاطئة تزيِّف وعي الجمهور وتهدد الأمن القومي وتسيء إلى علاقات مصر بدول شقيقة. ولعل آخر سقطات هؤلاء إدانة هجمات باريس وفي الوقت نفسه انتقاد إجراءات الأمن الفرنسي بنبرة تشفّ وبطريقة «اشمعنى» أو كلنا في التقصير سواء. سابعاً: اللامسؤولية في المدح والتأييد أو النقد. يبالغ الخطاب الإعلامي المصري عموماً في المدح والإشادة وإبراز الجوانب الايجابية في أداء الرئيس أو الحكومة، وهذا التطرف في المدح يقابله تطرف في القدح والنقد، وربما يقوم الأشخاص نفسهم أو المنابر الإعلامية نفسها بالأمرين على فترات متقطعة، وأحياناً في الأسبوع نفسه ووفق تطور الأحداث، فالمهم بالنسبة إليهم هو الانتشار وزيادة المشاهدة أو التوزيع، بغض النظر عن صدقية خطابهم أو مسؤوليتهم الاجتماعية والسياسية، وما إذا كان المدح وطرح الايجابيات يرفع من دون مبرر سقف توقعات وتطلعات الجمهور، أو إذا كان التطرف في النقد ينشر اليأس وخيبة الأمل بين الناس. في الأخير، أعتقد أن علاج المشكلات السابقة يتطلب تنظيماً ذاتياً للعاملين في الإعلام، أكثر تطوراً وفاعلية، وإعادة تأهيل وتدريب مستمر لكثير من الإعلاميين وفق المعايير الدولية، لكن قناعتي الراسخة هي أن العاملين في الإعلام هم الحلقة الأضعف في المنظومة الإعلامية، وبالتالي لا بد من تغيير التشريعات الإعلامية وبيئة العمل الإعلامي وشروط التعاقد مع مالكي وسائل الإعلام. وكذلك ضمان حرية الإعلاميين وعدم تدخل أجهزة الدولة، وكفالة حقوقهم في الحصول على المعلومات. وهنا؛ لا بد من المطالبة بسرعة تطبيق مواد الدستور كي يتحول الإعلام المصري إلى إعلام تعددي في شكل حقيقي، إعلام للمجتمع وليس للحكومة أو لرجال الأعمال، إعلام تختفي فيه أشكال الاحتكار وهيمنة الإعلانات، إعلام يسمح لكل المواطنين بممارسة حقوقهم الاتصالية. وثمة مخاوف مشروعة من إصدار قوانين تفصل مواد الدستور بطريقة غير ديموقراطية، تتناقض مع روح الدستور، وتعيد إنتاج نظام إعلامي سلطوي. وأتصور أن هذه المخاوف لها ما يبررها، في ضوء الخبرة التاريخية المصرية، وتشكيلة البرلمان الجديد، حيث صدرت قوانين وقواعد تنظيمية في عصري السادات ومبارك سلبت دستور 1971 روحه الديموقراطية، لكنها طبقت بطرق خاطئة وبعيدة تماماً من روح الدستور والقانون. نقلا عن صحيفة الحياة