جف القلم بموقعه فوق سطح المكتب البارد، وتجمد الحبر الكائن داخله، وارتسمت علامات التبلد على الملامح، وانتفضت السحب الكثيفة من قلب السماء، وانطلق صوت التكتكات يهز أرجاء المدينة. المطر يسقط على أرض الميدان، وأناس ثائرة، والبرد قارس، والروح هائمة بين سراديب السماء ... الدم مشروب عادى للقتلة أثناء الشتاء، والحبر مسكوب فوق الورق يسجل أسماء العباد، خالد، عماد، بهاء، بلال، مينا، علاء ... الحبر كاد أن يجف، والمطر يشتد ليلا، والقمر يسرق الأعين ويضئ للقتلة وللفساق ... صرخ العجوز من فوق مرقده المريح، آتونى مزيدا من الدماء، الجو بارد والدم يدفئ الأطراف يسخن جسدى العجوز، آتونى من كل فصيلة أكواب، وأمزجوا لى الشراب، هاتوه بكأس مرمرى، مملؤ حتى فمه، سأنام برهة، واستيقظ لأشرب من الدماء ... أطفئوا نور المساجد، أطفئوا ضوء الشموع، وأسكتوا كل المنابر وأخرسوا أجراس الكنائس... سأنام برهة، سأنام حتى استريح. الحبر جف، والورقة كادت أن تمتلئ بالأسماء، والدم يرسم صورهم على أرض الميدان. هل مات مينا أم أنه يصلى لربه بالقداس؟ البعض شاهد الشيخ عماد يحمى مينا ويحرس أبواب المدينة تحت أجراس عيد الميلاد. أما العجوز، لا ينام ليلته قلقا، دقات قلبه ترتبك،لا يحتفل بالعام الجديد، يزور سيده المريض، يقبل يده شاحبة البياض، ينظف ياقة سترته من التراب، يتبادلان الخطط، يتبادلان النحيب، الجنرال القوى العنيد يبكى دما . تقف النساء على أبواب حجرته، يلبسن من النور ثوبا يغطى عريهن، أجسادهن التى عراها ذات يوم لا يراها إلا هن، غطتهن بنورها مريم العذراء... يحاصرن قصره المنيع، بعضهن على هيئة أم على، دبات قباقيبهن تدوى بين الحجرات. نصف المدينة فى حداد، وبانتظار القصاص، الدم لطخ كل باب وكل دار، أخفضت رأسى وذرفت دمعة، مدت يدها، مسحت دمعتى، وهمست بصوت رقيق ألا أخاف، فالكل مات سعيدا، الكل مات كى نعيش، والكل يحتفل بالسماء ... اليوم أجتمعوا جميعا، من تواروا عن أنظارنا منذ شهور، من روى دمهم أرض البلاد، ومن سكنوا بالقبور، اجتمعوا بقلب السماء، واحتفلوا بعيد الميلاد، وابتسموا للعام الجديد، و أطلقوا جميعا الأمنيات، و انتصروا، وتوعدوا الرجل المريض والجنرالات، وتواعدوا مع ربهم على يوم سيأتيهم فيه القصاص احتضن مينا المسيح، لا تكاد تفرقهما، لكليهما نفس الملامح والسماحة، لكليهما نفس الجروح . وقفوا وصلوا احتفالا بأعياد الميلاد، وقف الباقون بجوارهم، وألتزموا الصمت والابتسام وهم يحمون الصلاة. لم ينم الرجل العجوز، ولم تنطفئ الشموع، لم تتوقف تراتيل الصلاة. تجمعوا بالسماء، أو بقلب الميدان، تبسموا، وطبطبوا على قلوب أهلهم، هدهدوا نساءهن الثكلى، توعدوا، وتواعدوا على يوم ليس بالبعيد، على يوم فيه الانتصار.