تميل الدول الغربية عامة للتعامل مع الواقع، كما تميل إلى الأساليب الناعمة، ولا تلجأ إلى الأساليب الخشنة والعسكرية إلى في لحظات غطرسة القوة، كما حدث في غزو العراق وأفغانستان، ولكنها تعود مرة أخرى إلى الأساليب الناعمة وسياسة الاستعمار أو الهيمنة غير المباشرة، لأنها الأقل تكلفة، كما أنها السياسة التي يمكن أن تستمر لفترات طويلة. لذا تصبح سياسة احتواء الحركة الإسلامية، هي السياسة المفضلة لدى الغرب. إلا أنها تبتعد عن سياسة الاحتواء وتتجه لسياسة الحصار، عندما يتعلق الأمر بدولة الاحتلال الإسرائيلي، لأنها تعتبرها شرطي المنطقة، وحامي الهيمنة الغربية على المنطقة العربية والإسلامية، خاصة بعد توالي سقوط الأنظمة التابعة للغرب في المنطقة العربية، بفعل ثورات الربيع العربي. لذا تصبح سياسة الاحتواء، هي منهج الدول الغربية، ولكن هذا الاحتواء توسع بعد ثورات الربيع العربي، فبعد أن كانت الدول الغربية تفضل احتواء الحركة الإسلامية في مقاعد المعارضة، وفي ظل ديمقراطية مقيدة، أصبحت تقبل بوصول الحركة الإسلامية للحكم، وتحاول أن تحتوي سياساتها. فبعد أن كان الاحتواء للدور السياسي للحركة الإسلامية، أصبح الاحتواء الممكن بعد ثورات الربيع العربي لسياسات الحركة الإسلامية في الحكم، وليس لدورها السياسي، حيث لم يعد من الممكن منع الحركة الإسلامية من الوصول للسلطة. وباتت الدول الغربية تفضل وصول الحركة الإسلامية للسلطة واختبار سياستها الفعلية على أرض الواقع، أكثر من تأخر ذلك، لأن الدول الغربية باتت تعتقد أن وصول الحركات الإسلامية للحكم أمر مؤكد. فأصبح وصول الحركة الإسلامية للحكم يمثل أمرا يفضل حدوثه على انتظاره، لأن انتظاره يترك احتمالات المستقبل معلقة، مما يعرقل قدرة الدول الغربية على اتخاذ القرارات المناسبة، سواء بدعم دول الربيع العربي أو بحصارها. فالدول الغربية تريد أن تحدد موقفها بناء على مواقف اللاعبين الجدد في الساحة السياسية، أي الحركات الإسلامية، حتى لا تتعنت بدون سبب فتخسر أكثر، وحتى لا تبدي مرونة بدون ضمانات لحماية مصالحها، فتخسر أيضا. لذا باتت الدول الغربية تتقبل وصول الحركات الإسلامية للسلطة، في دول الربيع العربي، حتى تتفاوض مع الحكام الجدد، وتصل إلى تفاهمات تحمي مصالحها، وتحدد مواقفها السياسية بناء على مواقف الحركة الإسلامية، وليس بناء على افتراضات لم تتحقق على أرض الواقع، فتصبح الدول الغربية هي التي بدأت بالمواجهة. لكن شروط الدول الغربية حول سياسات الحركات الإسلامية، ليست بالأمر الهين، فالدول الغربية لديها معايير متشابكة ومتعددة تحاول تمريرها، وتعتبر أنها معايير مهمة لحماية مصالح الدول الغربية. والرؤية الغربية تختلف عن الرؤية الإسلامية في عدة أوجه محورية، لذا فإن التوصل إلى تفاهمات طويلة المدى مع الحركات الإسلامية أمر صعب. كما أن الحركة الإسلامية تتبع منهج متدرج، ولا تريد أن تدخل في صراعات مبكرة، ولا تريد فتح قضايا مؤجلة بطبيعتها، وبحكم الظروف التي تمر بها دول الربيع العربي بعد الثورات. من الصعب أن تتبع الدول الغربية سياسات الدفع نحو المواجهة والصدام، والتي تتبعها نخبة الدولة، لأنها بذلك تبدأ هي المواجهة، وهو أمر يمثل مخاطرة كبرى لمصالحها. أما نخبة الدولة فهي ترى أنها الخاسر الأول بسبب ثورات الربيع العربي، مما يدفعها إلى المخاطرة، لأن كل مصالحها أصبحت مهددة بالفعل. ولكن موقف الدول يختلف عن ذلك، وموقف الدول الغربية التي تبني استراتيجيتها لعقود من الزمن، مختلف بالطبع، مما يجعلها أقل قدرة على المخاطرة، خاصة وأن ثورات الربيع العربي أحدثت تحولا كبيرا، خارج أي سيطرة خارجية، ولم تحسب له الدول الغربية حسابا. ولا يمكن في كل الأحوال التوصل إلى تفاهمات بين الدول الغربية والحركات الإسلامية طويلة الأمد، لأن مسار الثورة نفسه متغير ومتعرج. وقد تتصور الدول الغربية أنها وصلت إلى تفاهمات ثابتة نسبيا، ولكن واقع الحركة الإسلامية ومنهجها المتدرج، وطبيعة التغييرات التي تعقب الثورات، كلها تجعل المواقف السياسية متغيرة بتغير الظروف. ولأن الدول الغربية تركز على شرط الحفاظ على السلام مع الاحتلال الإسرائيلي وتركز على بقاء سياسة السوق الحر، لذا فهي في الواقع تركز على احتمالات افتراضية محددة، مثل شن مصر لحرب على الاحتلال الإسرائيلي، وتغفل التطورات الأكثر عمقا، والتي يمكن أن تؤثر على الاحتلال الإسرائيلي بأكثر من تأثير الحرب عليه، وتغفل أيضا أن سياسة الاقتصاد المغلق لم تعد مفيدة أصلا، ولكن التبعية للاقتصاد الغربي ليست حتمية أيضا، حتى مع استمرار سياسة السوق الحر. كما أن سياسة السوق الحر، لا تعني سيطرة طبقة رجال الأعمال على الثروة والسلطة، بل قد تسمح بتوسيع قاعدة الملكية ومحاربة كل أشكال الاحتكار، حتى تلك الأشكال التي تسمح بها السياسة الرأسمالية الغربية، والتي تمنع احتكار السلع، ولا تمنع احتكار القوة المالية والاقتصادية. لذا فإن أي تفاهم يظل مرحليا ومؤقتا، ولن يغيب هذا عن الدول الغربية، التي تظل قلقة وفاقدة للثقة في ما يحدث من تغيير في دول الربيع العربي، بل وفي المنطقة العربية والإسلامية كلها، خاصة مع تصدر الحركة الإسلامية للمشهد السياسي. والحركات الإسلامية من جانبها، سوف تجعل المنهج المتدرج مخرجها، فلا يمكن أن تحاسب سياسيا على النوايا، ولا على مواقف يمكن أن تتخذ في ظرف لم يظهر بعد، وكأن المنهج العملي هو مخرج الحركة الإسلامية، وهو في الوقت نفسه واقع فرض على الدول الغربية. وفي كل الأحوال، سوف تظل الدول الغربية تفضل وجود قوى علمانية قادرة على منافسة التيار الإسلامي والوصول للحكم. فالدول الغربية تقبل وصول الحركات الإسلامية للحكم بعد الربيع العربي، باعتباره واقعا مفروضا، ولكنها تظل تفضل وجود بديل علماني قادر على الوصول للحكم، أو على الأقل قادر على الحد من الدور السياسي للتيار الإسلامي، وعرقلة اختياراته الحرة، حتى يبقى للدول الغربية حليف داخلي يتوافق مع خيارتها، بجانب نخبة الدولة المتحالفة مع الدول الغربية. الغائب في معادلة الغرب والإسلاميين يغفل الغرب مسألة مهمة في تعامله مع الدول العربية والإسلامية، سواء قبل ثورات الربيع العربي أو بعدها، وهي تلك المرتبطة بالرأي العام. فالرأي العام ظل منفصلا عن النظام الحاكم قبل ثورات الربيع العربي، وبعد تلك الثورات أصبح هو الفاعل الرئيس. والدول الغربية تعامل الحركات الإسلامية باعتبارها نخبة الحكم وصانعة القرار، لأنها لا تعرف إلا صورة الديمقراطية النخبوية، حيث يفوض الناس النخبة التي يختارونها للحكم تفويضا كاملا، مما يجعل لها صلاحية اتخاذ ما تراه يحقق المصلحة العامة، حتى وإن لم يرضي الرأي العام. ولكن الديمقراطية المتولدة بعد ثورات الربيع العربي، هي أقرب للديمقراطية الشعبية، التي يوكل فيها الرأي العام لقيادة أو نخبة شعبية مهمة الحكم بشروطه، أي بشرط التزام تلك القيادة بخيارات الرأي العام. فالتوكيل يسمح للقيادة الشعبية المختارة في انتخابات حرة نزيهة، أن تحقق ما يريده الرأي العام بالطريقة التي تختارها، ويصبح منهجها هو مسئوليتها التي تحاسب عليها، ولكن القيادة الشعبية لا تستطيع تجاوز اختيارات الرأي العام، إلا إذا استطاعت إقناعه أولا. لذا فخيارات الرأي العام تكون هي الحاكمة في الديمقراطية الشعبية. فالدول الغربية تتحدث كثيرا عن وضع المرأة في دول الربيع العربي ومع التحول الديمقراطي، وتتصور أن هذا الوضع سوف تحدده الحركات الإسلامية بوصفها تمثل الأغلبية، ولكن الحقيقة أن دور ومكانة ووضع المرأة في الدول العربية والإسلامية بعد الثورات، سوف يحدده التيار السائد والأساسي في تلك البلاد، برجاله ونساءه. فالخيارات ستكون خيارات شعبية، تتفاعل معها الحركة الإسلامية بوصفها طليعة التيار الإسلامي، ولكنها لا تفرض رؤيتها، بل تدعوا لها فقط، ومن خلال التفاعل بين الحركات الإسلامية وجماهير التيار الإسلامي، سوف تتحدد الخيارات النهائية المترجمة للمرجعية الحضارية الإسلامية. فالقرار النهائي المشكل لتلك المرجعية وطريقة تطبيقها هو قرار الرأي العام السائد في التيار الإسلامي الأساسي الذي يمثل الأغلبية المجتمعية في الدول العربية والإسلامية. وكل تفاهم مع الحركات الإسلامية، هو في الواقع تفاهم مع الوكيل، الذي قد يعرض موقفه على التيار المؤيد له، ولكنه يلتزم في النهاية بالرأي السائد. والدول الغربية تتصور مثلا أن الحركة الإسلامية يمكن أن تفرض قيودا على المرأة، وتنسى أن الثورات الشعبية حررت الإرادة الشعبية، وبالتالي أصبح من يضع النظام العام والدستور والقواعد الاجتماعية والعرف والتقاليد، هو التيار السائد في المجتمع، وليس الحركات الإسلامية، حتى وإن كانت طليعة هذا التيار، بل أن الحركات الإسلامية لن تستطيع تمرير سياسات قد تحقق الصالح العام، إلا إذا روجت لها بين الناس. فالانتخاب حسب المرجعية الإسلامية، هو اختيار مشروط، وليس تفويضا مطلقا، لذا فهو توكيل سياسي مشروط، مما يجعل الرأي العام صاحب القول النهائي في تحديد ما يراه معبرا عن خياراته والمرجعية التي يلتزم بها. صحيح أن الحاكم في كل الأحوال يكون عليه تحقيق المصلحة العامة والهدف النهائي والغاية النهاية، بالطريقة التي يراها، ولكن عامة الناس تحاسبه على ما تحقق من تلك المصالح والأهداف والغايات، طبقا لمرجعية إسلامية لم يضعها الحاكم ولا يستطيع أن يغيرها، ولهذا فإن هذه المرجعية تجعل الحاكم مقيدا، بقيود يراقبه المجتمع من خلالها، ليحكم عليه ويحدد ما إذا كان التزم بالتوكيل المشروط الممنوح له أم لا. ولهذا ستواجه الدول الغربية في نهاية الأمر خيارات المجتمعات، وليس خيارات الحركة الإسلامية، وسيكون عليها أن تختار بين مواجهة الشعوب ومحاولة حصارها، أو التكيف مع خيارات الشعوب، وإعادة تعريف مصالحها في المنطقة العربية الإسلامية، طبقا لما هو متاح، وليس طبقا لما تريده. فإذا كانت تريد تأمين مصالحها في امتدادات النفط، فقد تجد هذا متاحا، ولكن إذا كانت تريد نشر قيمها في قضايا اجتماعية وثقافية-مثل قضية المرأة- فقد تجد هذا غير متاح لها، ويصبح على الدول الغربية أن تحدد أولوياتها في ضوء الممكن، أو تدخل في مواجهة مع الشعوب، وستجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع الممكن. وهو ما تخشاه الدول الغربية ضمنا، ولكنها لا تستطيع التعجيل بتلك المواجهات، لأنها سوف تعرقل المتاح حاليا، وهو ربما يكون أكثر من المتاح في المستقبل. ويصبح تحصيل الممكن والمتاح هو الاختيار الأفضل للدول الغربية، حتى تفاجئ بما تتوقعه غالبا، بأن المتاح والممكن يتقلص، وليس عليها إلا التعامل مع الواقع، لأنه واقع تفرضه الشعوب، بأكثر من كونه اختيار نخبة يمكن الضغط عليها.