مؤشرات الحصر العددي بدائرة بولاق، تقدم محمد إسماعيل وعلي خالد وإعادة مرتقبة بين حسام المندوه وعربي زيادة    أبرزهم أبو عقرب، المرشحون الأكثر تقدما طبقا للحصر العددي وفرز الأصوات بدائرة أبو تيج بأسيوط (صور)    قصف عنيف شمال شرق البريج.. مدفعية الاحتلال تشعل جبهة جديدة في وسط غزة    الفريق أسامة ربيع: لا بديل لقناة السويس.. ونتوقع عودة حركة الملاحة بكامل طبيعتها يوليو المقبل    كامل الوزير: نعد المصريين بالنجاح في الصناعة وصادراتنا ستصل ل 150 مليار دولار أقرب مما تتخيلون    الحصر العددي للدائرة الأولى المنتزه بالإسكندرية بعد إعادة الانتخابات بها بحكم قصائي    أعرف حالة الطقس اليوم الجمعة 12-12-2025 في بني سويف    ياسمين عبد العزيز: لماذا نؤذي بعضنا؟ الحياة لا تستحق.. أنا مات لي 5 مقربين هذا العام    بعد إعلان خسارة قضيتها.. محامي شيرين عبدالوهاب ينفي علاقة موكلته بعقد محمد الشاعر    رد مفاجئ من منى زكي على انتقادات دورها في فيلم الست    ظهر في حالة أفضل، أحدث ظهور لتامر حسني مع أسماء جلال يخطف الأنظار (فيديو)    الصحة: نجاح استئصال ورم خبيث مع الحفاظ على الكلى بمستشفى مبرة المحلة    كأس العرب - هدايا: كنا نتمنى إسعاد الشعب السوري ولكن    قائمة نيجيريا - سداسي ينضم لأول مرة ضمن 28 لاعبا في أمم إفريقيا 2025    البابا تواضروس: «من الأسرة يخرج القديسون».. وتحذيرات من عصر التفاهة وسيطرة الهواتف على حياة الإنسان    كامل الوزير: أقنعتُ عمال «النصر للمسبوكات» بالتنازل عن 25% من حصصهم لحل أزمة ديون الشركة    رئيس الطائفة الإنجيلية: التحول الرقمي فرصة لتجديد رسالة النشر المسيحي وتعزيز تأثيره في وعي الإنسان المعاصر    البيت الأبيض: إحباط متزايد لدى ترامب بسبب تعثر اتفاق السلام في أوكرانيا    كواليس لقاء محمد صلاح مع قائد ليفربول السابق في لندن    بعد رحيله، من هو المطرب أحمد صلاح؟    حمزة عبد الكريم: من الطبيعي أن يكون لاعب الأهلي محط اهتمام الجميع    كاري الدجاج السريع، نكهة قوية في 20 دقيقة    الدفع ب 5 سيارات للسيطرة على حريق بمخزن نادي الترسانة في إمبابة    العثور على جثة مجهولة لشخص بشاطئ المعدية في البحيرة    طلاب الأدبي في غزة ينهون امتحانات الثانوية الأزهرية.. والتصحيح في المشيخة بالقاهرة    ضبط شخص يحث الناخبين على التصويت لصالح أحد المرشحين بمحيط لجنة بالأهرام    الشروط المطلوبة للحصول على معاش الطفل 2026، والفئات المستحقة    كالاس تعلق على فضيحة احتيال كبرى هزت الاتحاد الأوروبي    واشنطن تصعّد الضغوط على كاراكاس.. تحركات لاعتراض سفن جديدة تحمل النفط الفنزويلي    مرصد الأزهر مخاطبا الفيفا: هل من الحرية أن يُفرض علينا آراء وهوية الآخرين؟    رحيل الشاعر والروائى الفلسطينى ماجد أبو غوش بعد صراع مع المرض    وائل رياض يشكر حسام وإبراهيم حسن ويؤكد: دعمهما رفع معنويات الأولاد    تصريحات خطيرة من أمين عام الناتو تثير غضبا سياسيا في ألمانيا    طريقة عمل كيكة السينابون في خطوات بسيطة    سيلتك ضد روما.. الذئاب تخطف ثلاثية أمام بطل أسكتلندا فى الدوري الأوروبى    محافظ الجيزة يتفقد موقع حادث انهيار عقار سكنى في إمبابة.. صور    أولياء أمور مدرسة الإسكندرية للغات ALS: حادث KG1 كشف انهيار الأمان داخل المدرسة    قفزة في سعر الذهب بأكثر من 65 جنيها بعد خفض الفائدة.. اعرف التفاصيل    أليو ديانج يقود قائمة منتخب مالى الرسمية استعدادا لأمم أفريقيا 2025    ياسمين عبد العزيز: ندمت إني كنت جدعة مع ناس مايستاهلوش    قائمة منتخب مصر في أمم إفريقيا 2025    إصابة ملازم شرطة انقلبت سيارته في ترعة على طريق دكرنس بالدقهلية    أكسيوس: ترامب يخطط لتعيين جنرال أمريكي على رأس قوة استقرار غزة    مدير الصحة العالمية: رصدنا سلالة جديدة من كورونا نراقبها    فصل التيار الكهربائي عن 11 منطقة وقرية بكفر الشيخ السبت المقبل    حرمانها من بناتها.. أحدث شائعة طاردت شيرين عبد الوهاب في 2025    أيهما الزي الشرعي الخمار أم النقاب؟.. أمين الفتوى يجيب    محمد رمضان ل جيهان عبد الله: «كلمة ثقة في الله سر نجاحي»    وزير العمل يشهد تسليم 405 عقود عمل لذوي همم في 27 محافظة في وقت واحد    وزير الصحة يتفقد مقر المرصد الإعلامي ويوجه باستخدام الأدوات التكنولوجية في رصد الشائعات والرد عليها    ضبط كميات من مصنعات اللحوم مجهولة المصدر داخل مصنع غير مرخص بالغربية    أستاذ قانون دستورى: قرارات الهيئة الوطنية للانتخابات متوافقة مع الدستور    «المشاط» تبحث مع بنك الاستثمار الأوروبي نتائج زيارته لمصر    حكم كتابة الأب ممتلكاته لبناته فقط خلال حياته    بث مباشر الآن.. مواجهة الحسم بين فلسطين والسعودية في ربع نهائي كأس العرب 2025 والقنوات الناقلة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 11-12-2025 في محافظة الأقصر    أسعار الفضة تلامس مستوى قياسيا جديدا بعد خفض الفائدة الأمريكية    دعاء الفجر| (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كان لا بد لحياتى من مسيري!
نشر في التغيير يوم 04 - 07 - 2012

أتذكر تلك اللحظة.. منذ حوالى 6 سنوات، حينما انتهيت من امتحانات الثانوية العامة، وكنت أشعر بعزلة شديدة، فقد كانت الثانوية العامة عزلة اي عزلة، فلا أعرف ماذا يحدث فى الخارج، خارج عالم الثانوية العامة، كنت أحياناً أستعين بالصحف لأعرف ما يجرى في الدنيا.. لكن أبي كان يخفى الجرائد أحياناً حتى لا يضيع وقتي. وقد كان محقاً إذ كنت أقرأ الجريدة كاملة. فوجئت بأسماء مغنيين جدد لا أعرفهم، وأن هناك أفلام جديدة عرضت فى السنين الماضية لم أكن أعرفها، فوجئت أن هناك كلمات جديدة .. إذ كان آخر كلام سمعته «روش طحن» لكن فوجئت أن القاموس تغير تماماً.
وقد كنت متأثراً إلى حد كبير فى تلك الفترة بالفلسفة الإسلامية، كانت حصة الفلسفة هي العالم الذى أهرب فيه من عالم الثانوية العامة الكئيب، وكان مدرس الفلسفة يعلم هذا، فكان يتعمد التوسع في موضوعات الفلسفة خارج المقرر، كان يسمح لي أن أكتب تعليقات على آراء الفلاسفة في القضايا المختلفة، ويسمح لى بالنقد ثم يقرأ آرائي التافهة ويناقشني فيها، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الجد!
غير أنني كنت متأثر أيضاً بكتاب «الأيام» لطه حسين، والذي كنت أدرسه من ضمن مقرر اللغة العربية. حينما أقرأ فى هذه الأيام آرائي وتعليقاتي على الفلاسفة الأوروبيين والمسلمين—بعد أن عرفت تفاصيل لم أكن أعرفها—أدرك كيف كنت متأثرا بفيزياء أرشميدس ونيوتن وهندسة إقليديس التى كنا ندرسها ضمن مقرر الثانوية العامة، لكني لم أكن مدركا هذا، والطريف أنني استخدمت مدخلا ميكانيكيا في نقد مفهوم «الحرية» عند ابن رشد، كلها أشياء مثيرة للضحك والسخرية والسعادة.
كان علي بعد أن انتهى عالم الثانوية العامة، أن أقرر إلى أي عالم سأنضم، إلى عالم الأغاني الجديدة والأفلام الجديدة والكلمات الهزلية الجديدة، ذلك العالم الذي طحنته الصيرورة لمجرد أنني غبت عنه عدة أشهر والذي أعده تافها، لمجرد أنه لا يعرف شيئاً عن الصفات والتشبيه وتناسخ الأرواح والحلول والكوجيتو والدولة والعقد الإجتماعى، ولأنه لا يعرف جهم بن صفوان وأبا حامد الغزالى وواصل بن عطاء والفارابى وابن رشد وديفيد هيوم ورينيه ديكارت وجان جاك روسو وإيمانويل كانط وهيجل، كم هو تافه.. كذلك كنت أراه! أم سأنضم إلى عالم اللغة اللاتينية الميتة والانجليزية التي لا يتحدثها أحد تقريباً إلا فى المجتمعات العلمية واللغة العربية التى لا يستخدمها أحد، عالم القضايا الجدلية التي لا تسمن ولا تغني من جوع .. عالم بروتوجوراس السوفسطائي!!
كان أستاذي يقول لي أننى مشروع فيلسوف عظيم، ولكنه كان يرى أنني طالب متفوق، وإذا التحقت بكلية علمية سوف أحقق أفضل بكثير مما يمكننى تحقيقه من خلال الفلسفة، لأن الفلسفة ببساطة «ما بتأكلش عيش» على حد تعبيره !! كان على أن أبحث فى تلك المتاهة وحدى، فآفة انفصال العلوم جعلت الفلاسفة لا يفقهون شيئا عن العلم الطبيعى، أضف إلى ذلك أن المجتمع المصرى أساساُ لا يقدر طلاب الفلسفة وعلوم الاجتماع لأن الكلية تقبل طلاب حاصلين على 60%، وأن كلية آداب فلسفة تسمى بكلية الكعب العالي! نسبة إلى البنات المتفرغات للكعوب العالية!! أما دارسى العلوم الطبيعية فهم يشعرون بحالة من التعالي غير المبررة، إذ أنهم في نظري لا يفعلون شيئاً غير استظهار ما يملى عليهم، وأن تعاليهم هو حالة من المرض الاجتماعي، فإذا قلت لأحدهم أنك تريد أن تزيد على الطب أو الهندسة بدارسة علوم إنسانية واجتماعية سخر منك، لأنك تشبه السيد الذى ينضم فى نهاية المطاف إلى العبيد!
كان عليّ أن أكتشف العوالم وخصائصها وحدي، فكنت على يقين أن ماهو كائن بالفعل ليس بالضرورة ما ينبغي أن يكون، لكن من أين أتحصل على فلسفة لا تنشغل طوال الوقت بتفسير قوله تعالى: "يد الله فوق أيديهم" تساعدنى في بناء رؤية؟ هل ينبغى أن أنسى كل هذه الأفكار التي ازدحمت وسببت لي صداعا وأرقا لأكون "طبيبا بارعا" أنفع الأمة كما كان يقال لى، كان السؤال: لماذا لم تنتفع الأمة بكل هؤلاء الأطباء العظماء؟ لابد أن ثمة شيء غير سليم! هل أنا بحاجة إلى أن أحقق ذاتي؟ هل تحقيق الذات هدف سامي أساساً؟ أم هناك شيء آخر ينبغى أن نجاهد من أجله؟
فى يوم خرجت أنا وأخى نتجول فى أحد المولات.. مررنا بدار الشروق "صدفة " ووجدت كتاب تصميم غلافة كئيب، صممه حلمى التونى الذى لا أحبه ولا أحب فنه وكان الكتاب بعنوان " العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة " ل د.عبد الوهاب المسيرى، قررت أنه ينبغى على أن أعرف ما هذه العلمانية التى يتحدثون عنها ما بين مؤيد ومعارض، أخذت الكتاب وحينما عدت إلى البيت جلست على الأريكه وكنت أظن أننى سألتهم الكتاب إلتهاماً.. لكن العكس تماماً حدث، ما هذه الطلاسم !! كانت الكلمة التى رنت فى أذنى رناً " الحلولية الكمونية " وقد بذلت قصارى جهدى حتى أفهمها لكن أحفقت كثيراً، استغرقت مايقارب الستة أشهر وأنا أحاول أن أنهى الكتاب.. والحق أنه كان مادة دسمة جداً، أنتهيت أخيراً من الكتاب وما فهمته لا يزيد على أن العلمانية الحزئية "حلوة " والعلمانية الشاملة "وحشة " لكن حينما تحدثت مع بعض الزملاء الذين فهموا المسيرى وكنت وقتها التحقت بالجامعة وبدأت أدرك تلك الكذبه الكبيرة المسماه بالجامعة - أنها أكبر كذبة فى التاريخ - وجدتهم يتعجبون لأننى لم أجاوز السبعة عشر عاماً وقرأت العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، فسُألت عن معنى " الحلولية الكمونية " ولم أعرف، ولم أكن أعرف أن " الحلولية الكمونية " بسلامتها هى جوهر الموضوع، وأنها النموذج الذى يقوم من خلالة المسيرى بتفكيك الظاهرة أو تمظهرات الظاهرة المسماة ب"العلمانية الشاملة "، فقررت إعادة قراءة الكتاب من جديد طالما أننى لم أفهم فيه شيئ كما هو واضح. وكانت فى القراءة الثانية الكثير من الوقفات التى وقفت عندها... والحق أننى حتى الآن كلما رجعت إلى " العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة " أجد فيه الجديد، وأنا على العموم أسمى مجلدى العلمانية " سفر التكوين " لعبد الوهاب المسيرى، فهو المدخل الأكثر أهمية لفكر عبد الوهاب المسيرى، لكن مع الحاجة لكثير من الجهد من القارئ.
أما للتخفيف..فقد قررت أن أبدأ بسيرته الذاتيه مع الجماعة التى أسسناها مؤخراً لتدارس فكر عبد الوهاب المسيرى وسميناها "رواق المعرفة "، إذ أن فى سيرته الذاتية من الطرائف والإنسانيات ما يجعل الموضوع يبدو سهلاً ومحفزاً.انتهيت من العلمانية ويبدو أن فى هذه المرة فهمت بعض الشيئ، كان على أن أقرأ الآراء المختلفة فى نفس الموضوع، فاشتريت عدة أعمال لفرج فوده ومراد وهبة.. ولم تستغرق كل الأعمال عدة أسابيع إذ كانت سطحية وتافهة للغاية.. وكنت أشبه كتابات فرج فودة بردح هالة سرحان فهما يتفقان فى محاولة إضفاء صيغة موضوعية على موقفهم الإنطباعى السوقى الغير علمى فى الأساس.. وهم يقومون بذلك من خلال الردح المبتذل !! فكان القرار أن عبد الوهاب المسيرى مفكر يستحق القراءة وأننى سأقرأ أعماله كاملة. من كتاب إلى كتاب ومن عدم فهم إلى محاولة إلى محاولة أخرى ومن اللغة والمجاز إلى دفاع عن الإنسان إلى اليد الخفية... الخ الخ، كان يبدو لى أننى بدأت أفهم منطق عبد الوهاب المسيرى والحقيقة أن ذلك كان يبدو فيه شيئ من الصواب، إذ كنت حينما أبدأ فى كتاب جديد وأقرأ عنوان القضية أو الموضوع الذى يتحدث عنه المسيرى أتوقع النموذج الذى سيستخدمه فى تفكيك القضية ومنهجه فى النقد وكانت المسألة فى الغالب تنتهى بنجاخ توقعاتى.
وفى أثناء ذلك الوقت تعرفت على الكثير من المهتمين بفكر عبد الوهاب المسيرى أو المحبين لعبد الوهاب المسيرى الإنسان، والحق أن محاضرات دكتور سليم العوا الأسبوعية كانت المكان الذى تعرفت فيه على معظم هؤلاء، وكانت المكان الذى يلتفى فيه هؤلاء الهاربين من العالم المزدحم فىى الخارج،كنا نتناقش بشأن الكثير من القضايا وكنت أتشدد دائماً فى إستخدام المفاهيم التى يستخدمها المسيرى فى كتاباته فكان الحديث يبدو متصنعاً إلى حد ما، لكن تلك المفاهيم إذا حاولنا إبدالها، فسوف نبدلها بجمل وصفية طويلة، لذلك لا أزال على موقفى فى ضرورة إستخدام المفاهيم التفسيرية فى النقاشات الجادة !!كانت الكثير من القضايا بدأت تتبلور فى تلك الفترة، أو على الأقل المناهج النقدية والمعايير التى ينبغى أن إستخدمها فى تحديد موقفى من القضايا والأشياء.
إننى حينما أعود بالذاكرة إلى الخلف، لا أتخيل حياتى.. كيف ستكون إذا لم يكن هناك عبد الوهاب المسيرى ؟؟ إن عبد الوهاب المسيرى لا يمثل لى إجتماعى أو فيلسوف أو ناقد أو خبير بالصهيونية، ولكنه مدخل إلى كل شيئ، لقد عرفنى عبد الوهاب المسيرى على كل شيئ... فهو يفتح لك باب على علوم الإجتماع على تنوعها ويفتح لك باب على الفلسفة.. وخاصة الفلسفة الألمانية.. ويفتح لك باب على علم النفس.. وعلى الإقتصاد، تستطيع أن تسمى عبد الوهاب المسيرى "مدخل إلى كل شيئ " بجداره.. فمن خلال أعمال المسيرى تعرفت على أعمال فرويد ونقد المسيرى لها وحينما قرأت فرويد لم أجد الامر يختلف، وكذلك آدلر ونيتشة وهيجل ودريدا وتوماس كون وماكس فيبر وماركس وشلنج وهوركهايمر وأدورنو وهابرماس... أسماء كثيره يمكنك أن تقضى وقتاً طويلاً فى قراءة أعمالها فتجد أن المسيرى ببراعة غير مسبوقة فد ألم بالجوهر الكامن وراء هذه الأعمال "المعرفى والوجودى " ليقدمها على عجلة شديدة وإستحياء ومن ثم يقوم بدوره الأساسى بتفكيكها ونقدها، ليجعلك تمسك بتلابيب الخطاب الغربى المعاصر لتقوم بنقده وتفكيكه ومن ثم بناء خطابك الإسلامى المنفتح المعبر عن هوينك والغير منكر للآخر بل والذى ينسب إلى كل ذى فضل فضله حتى لو اختلفت الرؤية، فعبد الوهاب المسيرى لم ينكر تأثره بماركس ولوكاش وفيبر وهوركهايمر وغيرهم، إلا أنه يظل متمسك بالجوهر التوحيدى لخطابه والذى يختلف عن كل هؤلاء.
أعرف أنه إذا قدر لى عمر، فإنه لا يزال أمامى الكثير لكى أعرفه، وأن عندى الكثير من الأراء كى أغيرها، لكن وحتى الآن، أستطيع أن أقول ومن دون مبالغة إننى لم أكن قادر قبل معرفتى بالمسيرى على تعريف الحياة !! والحق أن تعريفها ليس بالأمر السهل أو التلقائى ولم يصبح كذلك بعد، لكنك على الأقل تستطيع أن تجيب بطريقة فلسفية إنسانية مرتبة على ما يسمونه بالأسئلة الأساسية، فعبد الوهاب المسيرى يقدم لك طريقة تفكير جديدة ونموذج نقدى مركب لكنه بسيط جداً بساطة الفطرة الإنسانية، وما لفت إنتباهى فى هذا أنه على الرغم من صعوب ما كتبه المسيرى لغةً.. إلا أن معظم المقبلين على قراءته كانوا من الشباب !! عبد الوهاب المسيرى يقدم نموذجاً للإنسان الواثق فى نفسه وفى إنسانيته وفى وجوده وفى ربه !! إنسان ينطلق من بديهيات وجوديه ومعرفية ليقرأ الواقع ويفككه ويقيمه من خلال إدراكه لماهية إنسانيته، إنسان يستطيع أن يتخذ قرار ويتحمل نتيجة القرار حتى ولو لم تكن ذات جدوى مادية على المدى القريب.المثير للدهشة أن الكثير من الأسئلة التى لم أكن أستطيع أن أجيب عليها فى داخل نفسى، الآن أتحدث عن إجاباتها بثقة شديدة لأننى قررت -طبقاً لما أتيح لى من أدوات معرفة - أن تلك هى الإجابات، نعم أنا من يقرر ماذا ستكون الإجابة لطالما أن الأمر لا يتعلق بمطلق ! كثيراً ما أتعرض لمواقف أتحدث فيها مع طلاب وأساتذة فلسفة وعلوم إنسانية بل وطبيعية ينتمون إلى مجتمعات علمية عالمية ربما لا يمكن بأى حال من الأحوال مقارنة ما عندنا أو ما تخرجنا منه بها. أجد نفسى أتحدث بتلك الثقة التى تبثها كتابات المسيرى فى روح القارئ فأشعر بحالة من الإحترام أحياناً وحالة من التقدير أحياناً وربما حالة من الخوف تنتاب البعض لما يظهر من إلمام بنموذجه ومعرفته وتجاوزه بالتفكيك والنقد، نعم هناك من يخافون حينما يجدون من يتحدث أمامهم قد أمسك بنواصى خطابهم وتجاوزه بالنقد والتفكيك، وهذا ما حاوله المسيرى إذ أنه اعتصر آلاف الأعمال التى قرأها ودرسها وقام بنقدها وتفكيكها ليقدمها لنا نحن الأطفال على صينية من فضة لتكون لنا مدخلاً إلى كل شيئ، نبدأ منها لتتفتح لنا آفاق جديدة وعوالم جديدة ومعالم أخرى للحياة والوجود والكون. فتسقط ببساطة أسطورة "تفوق الغرب " أو بالأحرى "فوقية الغرب " التى أرقتنا كثيراً، ونثبت وتعلو صورة المسلم، أو المستقل بهويته القادر على صناعة رؤيته ومستقبله دون وصاية ولا توجيه من أحد طالما أنه إنسان لديه أدوات معرفة وتاريخ وهوية وثقافة، حتى وإن لم تكن ثقافة مكتوبة!
لا يهمنى كثيراً ما إذا كانت تصوراتى صحيحه أو خاطئة فأنا مثاب عليها لا مفر بإذن الله لطالما أننى نويت الإجتهاد وطالما أننى عازم على الإستمرار، لقد قررت أننى سأساعد كل من أراه فى حاجه إلى فهم هذه المفاتح التى تركها المسيرى، وسوف أمد يدى متسولاً إلى كل من أرى عنده ما سوف يدفعنى إلى مزيد من الفهم والمعرفة، لقد بدت تصوراتى للحياة مختلفة تماماً عما كنت أتخيله قبل أن أعرف المسيرى، وباتت تصوراتى لما ينبغى أن أفعله مختلفة أيضاً ، لقد تم حل إشكالية التناقض بين العلم الطبيعى والإنسانى أو الفلسفى، أو لنقل أصبحت هناك حلول تلوح فى الأفق ولو على الأقل نظرياً !... صحيح أن حالة الإغتراب بسبب إختلاف الرؤية عن المحيط الثقافى والإجتماعى تكون أحياناً مؤلمة، لكن الأمل أقوى من هذا الألم فى الدفع بالحياة نحو نمط أكثر إنسانية وأكثر ملائمة للإنسان الإنسان.. لا الإنسان الماكينة ولا الإنسان الأكول أو الإنسان الجنسانى أو الإنسان المستهلك أو الإنسان النجم !! وجدت الكثير من الشباب المتحمس لقراءة عبد الوهاب المسيرى وقد أسسنا معاً مشروعاً يتخصص فى هذا، نحاول تصميم بنيةالمشروع ذاتها لتكون إنعكاساً لفكر المسيرى ونحاول أن تكون العلاقات أيضاً كذلك..من علاقات الطلاب/ الطلاب إلى علاقات الطلاب/المنهج إلى علاقة الطلاب/البناء المعارى، لعله تتأسس جماعة علمية جديدة تبدأ من حيث انتهى عبد الوهاب المسيرى.
اليوم فى امتحان مادة الأمراض النفسية والعصبية قررت أننى سأستخدم أحد نماذج عبد الوهاب المسيرى فى تفكيك التصور الطبي بشأن باثولوجيا أحد الأمراض، وسوف أتحمل نتيجة تلك المجاذفة أياً كانت.
بإختصار لقد كان تعرفى على أعمال عبد الوهاب المسيرى مدخل إلى حياة جديدة تماماً، لا أزال فيها طفل صغير أو شاب فى مقتبل العمر... وأردت أن أتحدث عنها فى ذكرى مفارقته لنا.. لعله يجالس من هم خير منّا. كان عندى الكثير من الأوراق التى كتبتها شرحاً وتعقيباً وتلخيصاً وتوضيحاً ونقداً لما قرأته من أعمال المسيرى، وكنت أنوى نشر إحدى تلك الأوراق فى تلك الذكرى لكنت آثرت أن يكون حديثاً ذاتياً..
اللهم انفع بعلمه.. واجعله عمله الذي لا ينقطع واجزه عنا ثواباً.. واجزنا به ثواباً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.