بناء على تصنيف المستشار المؤرخ طارق البشري لفضاء الفكر السياسي المصري إلى مدرستين أو اتجاهين رئيسيّن منذ أواخر القرن التاسع عشر. يمكن مدّ الخط على امتداده لتتجلى مدرستان إحداهما مدرسة لطفي السيد العلمانيّة بليبراليتها المنكسرة وهويتها الأورومتوسطية والتي تفصل مصر— بشكل مباشر أو غير مباشر—عن محيطها العربي والإسلامي، ورموزها أمثال عدلي يكن وعبدالعزيز فهمي ومحمد حسين هيكل ومحمد محمود، ومدرسة مصطفى كامل الوطنية الإسلامية بتنويعاتها الإحيائية والراديكاليّة من الحزب الوطني إلى الإخوان المسلمين إلى مصر الفتاة وغيرها، ورموزها من محمد فريد وحسن البنا إلى أحمد حسين وعبد الرحمن عزام وفتحي رضوان، وهي المدرسة التي تحرص على ربط مصر بمحيطها الحضاري العربي الإسلامي. وقد أفرزت كلا المدرستان رموزها الفكريّة والثقافيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر، بعد مغادرة السيّد جمال الدين الأفغاني لمصر، وطوال القرن العشرين. فكان أبرز رموز مدرسة لطفي السيد: العقاد وطه حسين وقاسم أمين وتوفيق الحكيم وهيكل والمازني وسلامة موسى وعلي عبدالرازق وخالد محمد خالد. وكان من رموز مدرسة مصطفى كامل: السيد محمد رشيد رضا ومصطفى صادق الرافعي ومحمود شاكر وعبد الرزاق السنهوري وضياء الريس ومحمد يوسف موسى وسيد قطب وعبدالقادر عودة ومحمد محمد حسين وأنور الجندي ومحمد الغزالي. لقد تتلمذ جيل الرواد في كلا المدرستين على السيد جمال الدين، سواء مباشرة أو بشكل غير مباشر، وفهم كل منهم من دعوته ما أراد، فأخذ ونبذ، فتنازعوا أيضا الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ رفاعة الطهطاوي، ولا يزال منتسبو المدرستين يتنازعون نسبة الشيخين إلى الآن. ومع دخول الحركة الشيوعيّة مصر في أوائل العشرينات، لم تتغير الساحة كثيراً، فقد كان بالإمكان تصنيفها -بسهولة نسبية- كأحد التنويعات المعادية للدين. وببزوغ نجم الناصرية؛ أضيف مُعطى جديد، بما أن "حركة الجيش المباركة"، ومن بعدها النظام السياسي الناصري، لم تكن تنويعاً أيديولوجيّاً على أي من المسارين، ولا يمكن اعتبارها تنويعاً على تيار دون الآخر. فقد كان الخطاب الناصري غير معاد للدين، بل قامت الدولة بتأميم الدين وتوظيف الأزهر واستغلاله لبسط نفوذها داخليّاً وخارجيّاً، وانشغل بعض مفكري التيار الثاني بالتنظير ل"اشتراكية الإسلام". لكن لا يمكن اعتبار الحالة الناصرية حالة سيولة أيديولوجية، فقد كانت على العكس من ذلك تماماً؛ دولة ذات أيديولوجية صلبة، بل متوحشة، تسعى للهيمنة التامة على الواقع والتغلغل في كل ثناياه وتقويض مؤسساته الوسيطة، ومن ثم فلم ينج من اضطهادها سوى من سلم لها ودُمج في مشروعها بالكامل، وهو ما حدث للشيوعيين المصريين، وتأبى عليه الكثيرون من الإخوان المسلمين. هذه الأيديولوجية التي استخدمت ديباجات دينية إسلامية انطوت على مركز جديد، مركز يختلف عن مركزي الأيديولوجيتين الأخريين. كان مركز الأيديولوجية الجديدة هو الدولة، وكان الإله في هذا النسق هو الدولة. ولأن مركز الأيديولوجية الناصرية، هو في جوهره تنويع على مركز مدرسة لطفي السيد، ولو اختلفت الديباجات، فقد استوعبت أكثر التيارات الماركسية في المشروع الناصري، بل وتغلغلت في مفاصل الإله الجديد، ليصبح تصالح هذه التيارات مع الناصرية سببا ونتيجة بذات الوقت لاقتراب الناصرية من مدرسة لطفي السيد. بعد وفاة عبدالناصر ووصول السادات للحكم، لاقى الأخير عنتاً في ترويض الشلل والعصابات التي تغوّلت وسيطرت على مفاصل الدولة، بعد أن استوعبت في أيديولوجيتها تماماً. فلم يكن أمام السادات، الذي كان الناصريون والماركسيون يعاملونه باستعلاء واحتقار، لم يكن أمامه من سبيل لإنفاذ سلطاته سوى تفكيك الدولة الناصرية، ذلك التفكيك الذي ساهم الوضع العالمي في إنجاحه، بتحول نموذج الدولة عالمياً من الدولة المركزية المطلقة إلى الدولة الرخوة، ونقل المركز من الدولة إلى "السوق"! كانت إحدى آليات كنس الأيديولوجية الناصرية التي حطمتها هزيمة 1967، بل كانت أهم الآليات هي: تغيير النظام الاقتصادي، ذلك التغيير الذي كان موافقاً كلياً لاقتراب السادات من الأمريكيين وإيمانه بسيطرتهم وهيمنتهم على كل شيء! وينبئنا تاريخ مصر في هذه الحقبة أن الفصيل الوحيد الذي كان ممكناً له تبني المشروع الساداتي بالكامل، كما تبنى الماركسيون المشروع الناصري، كان الإسلاميون؛ الفصيل الأقوى حضوراً بعد النكسة، برغم وجود أكثر قياداته وراء الأسوار. كان الاقتراب من الإسلاميين، كتنويع على مدرسة مصطفى كامل، يعني نقلة نوعية في الخطاب؛ فبدلاً من توظيف الدولة للدين واعتباره أحد أدواتها، انتقل الكلام عن تطبيق الشريعة إلى المركز، باعتبار الدولة أحد أدوات الشريعة! لم تكن هذه بالنقلة الصعبة، فقد ساهم تفكيك الدولة/المركز وأيديولوجيتها وتبني أيديولوجية الاستهلاك الرخوة بطبيعتها، ساهم ذلك في نقلة الخطاب النوعية، مع بقاء المركز ذاته تنويعاً على الأيديولوجية العلمانيّة، وهو ما لم ينتبه له الإسلاميون منذ ذاك! لم ينتبه الإسلاميون أصلاً أن الأيديولوجيا بطبيعتها علمانية، لأنها نسق حلولي صلب منغلق، مركزه في داخله، ومهما تكثفت الديباجات الدينيّة في خطاب النسق السائد، فإنها لا تعني الكثير ولا تشير إلى شيء، فهي تفريغ للتوحيد من مضمونه، أو صياغته في بنية ملحدة. وبعبارة أخرى، الصياغة الأيديولوجية للإسلام كانت تعني تجميد الاجتهاد على اجتهادات/مذاهب بعينها (نسق منغلق) باعتبارها مطلقات "قانونية"، تحجب الوحي نفسه لحساب الاجتهاد البشري. وبرغم صعود الإسلاميين في هذه الحقبة، فقد زادت السيولة في الواقع السياسي والاجتماعي، ذلك أن الحلول في أيديولوجية السوق ليس بعنف ذلك الكامن في أيديولوجية الدولة. وبرغم عنف الصراع بين الإسلاميين والتيارات العلمانية في بدايته، حقبة السبعينيات، فقد انتهى الصراع بقدر كبير من السيولة الأيديولوجيّة لحساب الانخراط في بنية الدولة الرخوة والتنافس السلمي على التغلغل داخل مفاصلها. كانت حقبة مبارك استمرارا للسيولة الأيديولوجيّة، فمع تآكل الأيديولوجيتين الرئيسيتين ودخولهما عصر السيولة الذي يعتبر عبدالمنعم ابوالفتوح وحمدين صباحي أبرز رموزه، لم يعد الصراع الأيديولوجي بنفس القدر من الصلابة ولا نصفه ولا ربعه، فقد ظهرت معايير جديدة ل"التفوق" والصعود الاجتماعي، تمثلت في التنمية البشرية الذاتية وتحسين كفاءة "التروس" البشرية في آلة السوق. وكأحد تنويعات أيديولوجية السوق، استوعبت أيديولوجية التنمية البشرية ومشتقاتها (التسويق وإدارة الأعمال: عمرو خالد وطارق سويدان، ... إلخ) كلا الفريقين، فاقتربت القيم الاجتماعية الحاكمة، بل تشابهت في كثير من الأحيان، وأصبح السباق موضوعيًّا بحتاً؛ تمركزاً حول الأشياء واللذة. أدت هذه السيولة الأيديولوجية لظهور التكنوقراط كبديل للإسلاميين والماركسيين والناصريين. وبتزايد هيمنة أيديولوجية السوق، اتسعت قاعدة التكنوقراط؛ مهنيين بلا قلب ولا روح (ولا ضمير!). وظهر تنويعان للتكنوقراط، يستمدان قدراً من الصلابة من الأيديولوجيات القديمة. فأطلق البعض لحيته معتبراً التفوق في الدنيا تعبيرا عن رضا الإله، كالبروتستانت، وسلفيو كوستا. وظهرت الاشتراكية الثورية كحركة رومانتيكية قوامها شباب تكنوقراط (كثير منهم أناركيون!) ساخطون على اليسار التاريخي. لكن هذه التنويعات، برغم ذلك كله، لم تكن أكثر من 1% من طبقة التكنوقراط الجديدة، وربما أقل، وهي الشريحة التي لم تستطع أيديولوجية السوق أن تصرفها عن سؤال الغائية، ومن ثم لم تستطع التعايش مع الاستهلاك كغاية للوجود الإنساني. أما القاسم الأعظم من هؤلاء التكنوقراط، فهو لا يبالي أصلا ولا يخطر السؤال على باله. هذه القاعدة الأكبر هي التي شكلت أكثر ناخبي أحمد شفيق. وهو شكل جديد من عبيد الدولة أو أقنان البلاط، شكل ليس مُستعبداً لألوهيّة ملك أو حاكم أو دولة، بل لألوهيّة المصلحة واللذة! كانت هذه المقدمة ضرورية لاستشراف مستقبل الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، والتي أسفر الجدل الذي دار حولها أن الاستقطاب لكلا الأيديولوجيتين يمكن إحياؤه، وإن لم يكن بنفس الصلابة التاريخية. فمطالبة الجيوب العلمانية والليبرالية بأن يتنحى مرسي لحساب صباحي حتى يحشدوا لهذا الأخير، يعني أن سيولة الواقع لم تقض تماما على الخلفيات الأيديولوجية، وهو ما أثبته تفرق الثوار مساء يوم أن تنحى مبارك، ليس تفرقهم لفصيلين فحسب، بل لشظايا صغيرة داخل كل فصيل! يكشف هذا عن ملاحظة مهمة، وهي أن قاعدة ناخبي شفيق/موسى/أبوالفتوح هي أقل القواعد أدلجة وصلابة، بل وهي القاعدة التي يجب على التيارين فتح قنوات حوار معها، وإثارة أسئلتها ودفعها للبحث عن إجابة؛ علها تعدل عن حيادها. نعم، اعتبر انتخاب شفيق/موسى/ابوالفتوح، (وبعض ناخبي صباحي) في المرحلة الأولى حياداً أيديولوجياً، بمعنى أنه خارج الثنائية الصلبة: إسلاميين وعلمانيين! وبرغم أنني شخصيا معاد للأيديولوجيا كليا وعلى طول الخط، إلا أني أفكر بمنطقها الخاص وبصوت مسموع. وبغض النظر عن النتائج التي أعلنتها لجنة الانتخابات، فهناك ثلاث سيناريوها محتملة، ولو نظرياً على الأقل: 1- إن التصويت لشفيق في منافسته مع مرسي لن يكون حيادا أيدولوجيا، فليس كل العلمانيين "أخلاقيين" بحيث لا تسمح لهم مبادئهم بانتخاب أحد أصدقاء بل حلفاء مبارك رئيساً للجمهوريّة. كما أن انتخاب قاعدة التكنوقراط لشفيق في منافسته مع مرسي يعني ضمنا رفضهم لأيديولوجيّة الإخوان، وهو ما يُخرجهم من الحياد لموقف "النصف"، فهم سيصوتون ضد ما لا يريدونه، وربما لا يكونون واعين بما يريدون أساسا. 2- إن التصويت لصباحي ضد شفيق سيكون موقف الإسلاميين أصحاب السيولة الأيديولوجية، أما الذين تنطوي تصوراتهم على قدر من الصلابة فسوف يقاطعون الانتخابات خصماً من رصيد صباحي. فإذا خرجت قاعدة التكنوقراط عن موقفها المحايد بالتصويت لصباحي، فسيخسر شفيق بفارق ضئيل. 3- أن تكون المنافسة بين صباحي ومرسي، وهنا تصبح معركة أيديولوجية علنية، يفوز فيها الأكثر قدرة على حشد منتسبيه وتنويعاتهم، ولا يتوقف الفوز فيها على استقطاب كتلة التكنوقراط. والله تعالى أعلى وأعلم.