في ظل ما تمر به أوروبا وأمريكا من ظروف سيئة، ما بين أزمة مالية تعصف بقلب القارة الأوربية العجوز، وإنهاك قوات الناتو في أفغانستان، والتحول الدراماتيكي الحادث في الشرق الأوسط مع إعصار"الربيع العربي"، والخلاف مع إيران، والمشاكل بمنطقة الخليج خصوصا المسألة البحرينية، والخوف من انتفاضات قد تحدث في السعودية، وبالتالي حدوث تغييرات غير محسوبة في منطقة "منابع البترول" الأهم في العالم. ينظر رجال الناتو في الدور الذي من الممكن أن يقوم به الحلف العالمي الكبير، وتحديد استراتيجية مستقبلية يمكن أن يبني عليها حروبه وسياساته ونفوذه. في مقالته التي نشرتها جريدة "الاتحاد" الإمارتية يطرح المندوب الامريكي في الحلف الأطلسي "الناتو" كرت فولكر تصوره لدور حلف الناتو المستقبلي، وماذا يتعين القيام به في الواقع اعتباراً من الآن. فولكر يتحدث عن أن أوروبا تعاني من أزمة مالية، والجميع أخذ يخفض ميزانيات الدفاع، وهو ما يفسر جزئياً بالتركيز الجديد على مشاريع "الدفاع الذكي". غير أن حلفاء كثيرين يفتقرون إلى الوسائل أو الإرادة (أو كليهما) لتولي عمليات عسكرية صعبة، وعلاوة على ذلك، لا أحد في أوروبا متحمس بشأن الدفاع الصاروخي للتصدي لضربات ممكنة من إيران. غير أن أعضاء الحلف سيتعاونون إذا بقي الروس هادئين ودفعت الولاياتالمتحدة المال – وهو ما ستفعله، في البداية على الأقل. الناتو والحرب الباردة فولكر يشير إلى أن "الناتو" أخذت قوته تنفد بعد أن حوَّل نفسه على نحو دراماتيكي بعد الحرب الباردة. فمنذ سقوط جدار برلين في 1989، بدأ الحلف إجراء عمليات عسكرية "خارج المنطقة"، بدلاً من التركيز على الردع. وهو ما أدى إلى فقدان دعم الجمهور الأوروبي والأمريكي ومعها أخذ الحلف في إنهاء جزءا من عملياته. صحيح أن الحلف وفقا لفولكر، أضاف أعضاء جدداً من أوروبا الوسطى، ولكن ذلك لم يعد مطروحاً على الطاولة الآن بعد أن قضى سعيُ روسيا إلى تأكيد ذاتها وأزمة "اليورو" الطويلة على كل رغبة في فتح الأبواب. فولكر يقول أنه خلال العقدين الأخيرين، حوَّل "الناتو" قواته الدفاعية من قوات ثابتة وثقيلة إلى قوات رشيقة وقابلة للنشر في أي مكان، ولكن تلك القدرات أصبحت تخضع اليوم للتقليص. أما الممارسة الوحيدة التي تعود إلى زمن الحرب الباردة وما زال معمولاً بها في الحلف، فهي عقد شراكات مع بلدان أخرى. غير أن حتى ذلك يمثل تطوراً حلواً- مراً في وقت يقوم فيه شركاء اليوم بما يرفض بعض الحلفاء القيام به من خوض للقتال في مناطق بعينها. في 2010، حددت قمة الناتو في لشبونة "مفهوماً استراتيجياً" للمستقبل. لكن تبين لاحقاً أن ذلك هو عبارة عن ملخص كامل لكل الأشياء التي يتعين على "الناتو" القيام بها، بدون أولويات حقيقية والتزام بالموارد. وعبر ترتيب كل الأولويات، بدون ترتيب أي شيء. فقدان النفوذ ثم يتحدث فولكر عن أزمة الموارد التي تعصف ب"الناتو" وعن تأثير ذلك على اختزال العمليات العسكرية في مناطق، وتقليص النفوذ في مناطق أخرى، وهو ما سيؤدي إلى فقدان الثقة في الناتو بقوله :" اليوم، وفي وقت أخذت تتآكل فيه قدرة الحلف بسرعة، بتنا نواجه على نحو متزايد نقصاً في المصداقية. فنحن لدينا طموحات عالية، ولكننا لا ندعمها بالموارد والزعامة والالتزام. وبالتالي، فيمكن القول إن استعادة مصداقية "الناتو" هي أهم مهمة للحلف في الوقت الراهن. يدعم فولكر كلامه بقول لورد روبرتسون، أحد الأمناء العامين العظام للناتو، الذي قال ذات يوم: "إن مصداقية الناتو هي قدرته". إحدى المقاربات الممكنة التي يطرحها فولكر تتمثل في التركيز على الرجوع خطوتين للوراء، والتركيز على المناطق القريبة من أمريكا وأوربا، يقول فولكر :" إذا كانت الجماهير متشككة بشأن التزامات الحلف في مناطق بعيدة من العالم مثل أفغانستان، وإذا كان الحلفاء يقومون بخفض قدراتهم للقيام بمثل هذه العمليات على كل حال؛ فعلى"الناتو" أن ينظر إلى ما يستطيع تحقيقه بمصداقية كبيرة، وإلى ما سيتفق مواطنو بلاد "الناتو" على أنها أولويات حقيقية. يضيف فولكر قائلاً أنه قد يتضمن ذلك تجديد التأكيد على التخطيط والتمرينات للدفاع الجماعي– وهي المهمة الرئيسية للناتو كما يلخصها البند الخامس من اتفاقيته. لكن الأخطر الذي يشير إليه فولكر هو أهمية تركيز "الناتو" على المشاكل المتعلقة بالبلاد العربية والإسلامية فيما يتعلق بمسائل الإرهاب والبترول، فيقول :" يجب علينا فهم ما يمكن أن يهدد في الواقع أراضي الحلفاء اليوم: ليس الجيوش التقليدية أو الأسلحة النووية فحسب، ولكن أيضاً الإرهاب، والهجمات على البنى التحتية، واضطرابات إمدادات الطاقة، والهجمات الإلكترونية. والأكيد أن معالجة هذه المشاكل بموارد والتزام حقيقيين هو شيء يستطيع "الناتو" تحقيقه إن هو رغب في ذلك، ومرتبط أكثر بالرخاء المباشر للمواطنين في الحلف. التعلم من التجربة وهناك مقاربة أخرى يطرحها فولكر تتمثل في النظر إلى النجاحات داخل أوروبا، بدلاً من الإخفاقات. وهنا، يمكن القول إن منطقة اسكندنافيا- البلطيق الأوروبية المزدهرة تقدم دروساً لمجموعة البلدان الأطلسية الأوسع، مثلما تُظهر دراسة حديثة من مركز العلاقات الأطلسية بكلية الدراسات الدولية العليا التابعة لجامعة هوبكنز. فمعظم هذه البلدان تنتمي إلى "الناتو"أو الاتحاد الأوروبي أو كليهما. وهي تُظهر أنه عبر تدبير مشاكلها الخاصة على نحو جيد – النمو الاقتصادي، خفض العجز، أمن الطاقة، تعزيز الاندماج، علاقات الجوار مع روسيا – تستطيع المنطقة المساهمة بشكل متفاوت في الجهود المشتركة، سواء كانت ليبيا أو أفغانستان أو أوروبا حرة وشاملة للجميع. فولكر إن إيلاء اهتمام أكبر لمنطقة "الناتو" –عبر تنظيفها والدفاع عنها– يساعد على وضع أجندة تقدمية للناتو والاتحاد الأوروبي. ذلك أن حل أزمتي العجز والديون اللتين نعاني منهما هو في الواقع إجراء أمني، على غرار تنويع حقيقي لمصادر الطاقة. ودعم الحرية والأمن في أوروبا الشرقية يقوي دفاعنا، على غرار التوصل لإجماع بشأن كيفية التعامل مع روسيا. كما أن تعميق الاندماج الأوروبي سيوفر شريكاً يمكن الاعتماد عليه أكثر بالنسبة للولايات المتحدة. أخيرا يختم فولكر كلامه قائلاً :" في عالم اليوم يرى "الناتو" صعود قوى جديدة، وتنافساً على الموارد، وتهديد الرأسمالية السلطوية، وتطرف الحركات الإسلامية. وبدون مجموعة أطلسية قوية، فإن تلك هي القوى التي ستشكل ملامح القرن الحادي والعشرين، بينما تخبط البلدان التي ساهمت منا في تشكيل ملامح القرن العشرين خبط عشواء.ولكن بأجندة واقعية وتصميم ثابت تستطيع المجموعة الأطلسية كتابة مستقبلها بنفسها.