تمور الساحة السياسية المصرية الآن بشتى أنواع الصراعات المتباينة بين القوي المختلفة، وعلى محاور متعددة، لعل أهمهما: 1) عملية تشكيل اللجنة التأسيسية المكلفة بكتابة الدستور الجديد؛ و2) التنافس الشديد في الانتخابات الرئاسية القادمة أواخر هذا الشهر (مايو)، والمخطط لها رسميا أن تكون المحطة الأخيرة بمسار نقل السلطة في مصر. في موضوع اختيار اللجنة التأسيسية للدستور، يبقى الإخوان هم حجر الزاوية وبإمكانهم تسييرها وتعطيلها. السلفيون أكثر تساهلا بكثير من الإخوان ولديهم استعداد أكبر للتوافق مع القوى غير الإسلامية في اختيار التأسيسية، ذلك لأن السلفيين لا يخوضون أي معركة من أي نوع حاليا. فمعركة الانتخابات الرئاسية ليست معركتهم وهدفهم فيها أمران: أولهما أن لا يحقق التنظيم الإخواني الهيمنة الكاملة على مؤسسات الدولة، وبالتالي يتجنبون السيناريو الإيراني لدولة المرشد والرئيس، لكنهم في نفس الوقت لا يريدون للتيار الإسلامي بمجمله أن يخسر انتخابات الرئاسة. من هنا جاء تأييدهم للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وليس للدكتور محمد مرسي. على الجانب الآخر، يهمهم أن لا يتم حل البرلمان، كيلا يخسروا حصتهم الحالية في النظام السياسي. بالتالي، هم يرحبون بأي إجراءات للتهدئة تسير الأمور في موضوع اللجنة التأسيسية، لكي يتجنبوا انهيار المسار الانتقالي، أي أنهم يتحركون باستراتيجية الحد الأدني. القوى السياسية غير الإسلامية أيضا، معركة إنتخابات الرئاسة ليست معركتها، لكن الفارق هو أنها تفتقر إلى أي حصة مؤمنة ومعتبرة في النظام السياسي أصلا، فهي تعتبر تأمين أي وجود لها داخل التأسيسية أمام تغول الإخوان مسألة وجودية، من هنا يأتي إصرارها على رفض الإقصاء. يتحرك الإخوان بمنطق الشد والجذب، فهم يوافقون بالأمس على معايير اختيار التأسيسية لإظهار المرونة والرغبة في التوافق والتفاهم، لكنهم يتشددون لاحقا، فيرفضون المعايير عبر اللجنة التشريعية في محاولة للضعط على العسكري للحصول علي مكاسب سياسية أكبر، إما لتمرير بعض السياسات العامة المرجوة أو الحصول على وعود بمواقع سياسية داخل السلطة التنفيذية أو أي مكاسب سياسية أخرى يمكن أن يتم التفاوض عليها. لكن تبقى تلك المعارك ثانوية بالنسبة للإخوان لأنهم يدركون أن الدستور في جميع الأحوال ستتم كتابته في ظل وجود الرئيس الجديد. إذن معركتهم الحقيقية الآن هي معركة انتخابات الرئاسة ورهانهم الحقيقي هو على قدرتهم علي الفوز بها، وهذا مدهش جدا، لأن أي أحد له دراية سياسية يدرك أن فرصة الدكتور محمد مرسي في الفوز ليست كبيرة بأي حال، خاصة بعد رفض الدعوة السلفية تأييده (وهو ما عرفه الإخوان مبكرا بلا أدنى شك). وحتى لو فاز الإخوان بالرئاسة، فهم خاسرون أيضالأنهم سيعجزون عن تحقيق التغيير المنشود بالسرعة والكيفية المطلوبة؛ فهم إذن خاسرون إذا فازوا بها وخاسرون إذا لم يفوزوا. في جميع الأحوال، الرئيس القادم أيا كانت هويته (في حالة إذا ما أجريت الانتخابات فعلا ولم يضرب المجلس العسكري كرسيا في الكلوب) سيأتي في ظل غموض دستوريا ومؤسسيا، حيث لا دستور جديدا والإعلان الدستوري القائم لا يحدد شكل العلاقة بين الرئيس و البرلمان، (لهذا السبب تحديدا قد يصدر العسكري إعلانا دستوريا جديدا)، والأهم أنه سيعجز عن تحقيق أي تغيير في السياسات التنفيذية للدولة لأنه سيفتقر للقوة السياسية التنظيمية الكفيلة بتفكيك الشبكات البيروقراطية الحاكمة للنظام. بالتالي سيعجز عن امتلاك سلطة التعيين والعزل والمحاسبة داخل أجهزة الحكم والإدارة. أي يفتقد تلك السلطة اللازمة لوضع السياسات وتنفيذها وتخصيص المخصصات والموارد الحكومية والمجتمعية. باختصار، لن يتغير أي شيء. القوة الوحيدة القادرة تنظيميا على البدء بمواجهة شبكات النظام هي الإخوان، لكنهم لن يفعلوا هذا لسببين: أولا هم في تقديري لن يفوزوا بانتخابات الرئاسة، وبالتالي لن يصلوا للسلطة التنفيذية؛ وثانيا أنهم لا يرغبون أصلا بهذا لأسباب تتعلق بطبيعة تكوينهم الاجتماعي والتنظيمي والاقتصادي المحافظ الذي يرفض تجذير سياسة «التغيير» أو الدخول في صدام مؤسسي ومجتمعي واسع حتى لو كان هذا هو السبيل الوحيد لأي تغيير حقيقي! أخيرا تبقي هناك بؤر محتملة للاضطراب الاجتماعي الذي قد يخرج عن السيطرة مثل أنصار حازم أبو إسماعيل (الفاعل السياسي الجديد الوحيد في الشهور الأخيرة) وحركة الاحتجاجات العمالية، وغيرها. إذن بهذا المعني فالفترة الانتقالية لن تنتهي أبدا، وتسليم السلطة الحقيقي لن يحدث أبدا، والسلطة التنفيذية الحقيقية لن تنتقل لأي جهة منتخبة شعبيا، بغض النظر عن إجراء الانتخابات من عدمه وعن نتيجتها، بينما لن يتولى العسكريون الحكم التنفيذي بشكل مباشر وشامل على الطريقة الناصرية، لأنهم لا يملكون تحمل تكلفة هذا الخيار، لكنهم على الجانب الآخر لن يسمحوا بأي انتقال حقيقي للسلطة التنفيذية، لأنه قد يهدد مصالحهم. إذن فهم يرتاحون لحالة الفراغ وعمليا مغزى حركتهم تجاه السلطة التنفيذية أن تبقى ثقبا أسودا، أي موجودة وغير موجودة، وهو وضع لن تتحمله مصر كثيرا بحكم الأزمات الاجتماعية الاقتصادية التي تواجهها، وتحتاج عملية سياسية ما للتفاوض المجتمعي حول طرق مواجهتها، ومن ثم خلق مجال سياسي من الصفر تقريبا. ستبقي الدولة المصرية العميقة—على كل تفاهتها وانحطاطها وأزماتها التاريخية وفقدانها للشرعية (شرعية القوة وشرعية الأداء)—هي رجل مصر المريض الذي سيستمر بقوة القصور الذاتي، طالما ظل الفراغ مستمرا. وقد عاشت الدولة العثمانية كرجل أوروبا المريض أكثر من قرنين من الزمان، لأن القوى البديلة الدولية والإقليمية لم تكن ببساطة في وضع يمكنها من ملء الفراغ ووراثة الرجل المريض. لكن الانهيار قادم لا محالة في حالة رجلنا المريض— طال الزمن أو قصر— لأن مرضه غير قابل للإنعاش الصناعي ولا التسكين المؤقت، ولأن مصر لن تحتمل طويلا الجدل حول السياسة بدلا من الجدل في السياسة، ومن تحقيق استحقاقات التغيير السياسي والاقتصادي المطلوب.