بداية وقبل أن أشرع في طرح الموضوع، يجب أن أمهد ببعض الملحوظات الهامة: أولاها، ينبغي للجميع التريث في أحكامهم حول الأحداث والمواقف المتلاحقه، ليتسنى استيضاح كثير من النقاط تبدو غامضة الآن، بل وحتى يتسنى البحث عن خبايا ما يدور في الغرف المغلقة، وهو أمر يتيحه عدم وجود موعد مستعجل لاتخاذ قرارات جوهرية، فانتخابات الرئاسة مثلا أمامها نحو شهر ونصف. ومن ثم، فهناك حاجة للتروي قبل إصدار الأحكام. ثانيتها، إن ما يحكم تصرفات بعض الجهات ليس فقط العوامل الداخلية بمصر، ومن ثم فتحليل مواقف جهة من الجهات يجب أن يأخذ بالحسبان العامل الخارجي أيضا، وهو أمر يغفله الكثيرون في تحليلهم للأمور. ثالثتها، هناك مستويان من التحليل، أحدهما يحلل على أساس الواقع، فينطلق من الواقع وينقسم لطريقين، بالنسبة للبعض، فهو ينطلق من الواقع ويعود إليه، وللبعض الآخر ينطلق من الواقع كي يصل للمنشود. المستوى الثاني يبدأ من المنشود، لكن لا يأبه بالواقع ولا يأخذه بالحسبان. الشاهد من تنوع مستويات التحليل أن نتذكر دائما عند تحليلنا نحن للمواقف أن نضع بحسباننا أن الآخرين ربما أخذوا مسارا مختلفا في التحليل، وبالتالي في الفعل والموقف. فينبغي ألا ننزلق في هوة ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة بناء على انطلاقنا من مستوى المنشود، لأن التحليل الصحيح من وجهة نظرنا هو الذي يأخذ الواقع بالحسبان ولا يتجاهله، لكنه في نفس الوقت لا ينهزم أو يستسلم له. سوف أعرض رؤية لست بصاحبها، وإنما سمعتها خلال مناقشه مع صديق عزيز، أثناء مناقشتة حول ما يحدث الآن في مصر ورؤية كل منا للواقع وموقفنا من مسألة ترشيح خيرت الشاطر. بعد أن أعرض هذه الرؤية سأطرح تحليلي الذي ذكرته للأخ العزيز في معرض ردي على ما طرحه من رؤية، أرى أن لها منطقها وأهميتها، فحتى وإن اختلفت معاها، لا يسعني إنكار ما بها من الحقيقة. منطلقات الرؤية المطروحة 1. الوضع العام في مصر من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وضع متأزم للغاية، وللأسف فان العديد من القوى السياسية لا تأبه للموضوع، بل ولا تضعه في الحسبان، والعديد أيضا ينشغل بصراعات قد تبدو للعامة أمورا خارجة عن دائرة اهتمامهم، فضلا عن دائرة قدرتهم على التأثير، ومن ثَمّ فالوضع الاقتصادي عنصر هام للغاية في المعادلة، وهو أيضا للأسف الشديد عنصر ضغط هام بيد المجلس العسكري باعتبار قيامه بشئون البلاد وباعتباره جزءا من نظام يسعى بكل قوته للاستمرار. 2. هناك داخل الإخوان تياران رئيسان، سماهم الصديق العزيز، تيار الفكرة وتيار الحركة. أما تيار الفكرة فينحدر من تيار التنظيم الخاص حتى الآن، وهو التيار الذي ينتمي إليه معظم قادة الإخوان اليوم (محمد بديع، ومهدي عاكف، ومأمون الهضيبي، وخيرت الشاطر، وغيرهم). وهذا التيار بحسب الصديق العزيز، هو الأكثر حفاظا على الفكرة الإسلامية ورغبة في تحقيقها والسعي لتنزيلها على الواقع. أما التيار الآخر فهو تيار الحركة وينتمي إليه رواد العمل العام الإخواني على مدار تاريخ الإخوان، ومنهم عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان، والمجموعة التي تولت مهمه العمل العام كالمهنيين او الطلاب وما شابه، وبالتأكيد ينضم إليهم الدكتور البلتاجي كأحد النماذج الأحدث لهذا التيار، وهو تيار – بحسب الصديق العزيز– أقرب للتوافق والتعامل مع القوى والتيارات الأخرى بالمجتمع، وبالتالي قدرته على المواءمة وتقديم التنازلات أكبر. 3. تواجه رئيس الجمهورية القادم مشكلتان رئيستان: الأولى صلاحياته التي ستكون مربط فرس في مسألة وضع الدستور، ومن ثم فان الرئيس القادم مهما كان ثوريا قد لا يستطيع أن يغير شيئا إذا نزعت صلاحياته لصالح البرلمان أو رئيس الوزراء، والثانية أن عدم رضا المجلس العسكري عن الرئيس القادم سيجعل السنوات القادمة هي الأسوء في تاريخ البلاد، وللأسف المجلس العسكري باستطاعته أن يفعل ذلك في ظل تغلغل النظام القديم (المستمر حاليا) في أجهزة الدولة، بداية من المحافظين ورؤساء مجالس الإدارات والمحليات ووكلاء الوزارات وبقية أجهزة ومؤسسات الدولة، ولذلك يحتاج الرئيس القادم أرضا صلبة يقف عليها في مواجهة هذا التحدي القائم والخطر المحيط. لذلك يرى الصديق العزيز أن وجود خيرت الشاطر كرئيس للجمهورية سوف يضمن علاجا لهذه المسائل الثلاث: أولا، رغبة الإخوان في تثبيت الشعبية بل واكتساب شعبية جديدة سيجعلهم يضعون نصب أعينهم إصلاح المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في خلال فترة توليهم للسلطه، وهو أمر مدفوع بعامل ضغط هام وهو عدم إدراك العامة أن المجلس التشريعي ليس بيده شيئا يقدمه للمجتمع من الناحية التنفيذية، وهو أمر يخصم الآن وسيظل يخصم من رصيد شعبيتهم لدى العامة ممن ينتظرون إصلاح أحوالهم المعيشية بواسطة من انتخبوهم لمجالس ظنوا أن بيدها الأمر. ثانيا، نظرا لكون الشاطر من تيار الفكرة داخل الإخوان، سيناضل لأجل تحقيق الفكرة الإسلامية بل ومحاربة تغول دولة النظام السابق على العهد الجديد، مما سيجعله عقبه أمام العسكر في استمرار هيمنتهم على الدولة المصرية، وربما أيضا هيمنة القوى الخارجية عليها. ثالثا، إذا فاز الشاطر رئيسا، فوجود الإخوان تنظيما وحيدا قويا على الساحه المصرية الآن، سيتيح له أرضية صلبة لإعادة هيكلة الدولة المصرية من الأساس مما يمكنه من مواجهة تحدي المجلس العسكري ومن يقف وراءه في محاولة ضرب الرئيس القادم مهما كان اسمه، إذا لم يكن على هوى المجلس، وبالتأكيد كونه من الإخوان سيجعله متوافقا مع مجلس الشعب ومع صلاحيات الرئيس المقررة في الدستور المقبل. أ.ه. هنا تنتهي رؤية الصديق العزيز حول ترشيح خيرت الشاطر، بقي توضيح أن هذا الصديق لا ينتمي تنظيميا ولا فكريا للإخوان المسلمين، وان كان يحسب على التيار الاسلامي العام، بل ويعتقد البعض أنه يميل للتيار السلفي. الرد على هذه الرؤية 1. هذه الرؤية تفترض أو تستبطن تسليم الدولة كاملة للإخوان، وهو أمر لن يرضي أطرافا خارجية –عربية– بالأساس عن الوضع، مما يعني ضغوطا على الدولة المصرية، سياسية واقتصادية. وهو أمر لا يجعل الصورة وردية تماما في حال تسلم الإخوان المسلمين لحكم مصر، وهو ما يعني أن الحل الإخواني ليس حلا ذهبيا للمسألة. 2. تركيبة الإخوان الاقتصادية – بل وتركيبة خيرت الشاطر تحديدا – تميل نحو النظام الرأسمالي، وهو أمر خطير إذا أضيف له أمران آخران: أولهما أن الاجتهاد الاسلامي في الاقتصاد مازال فقيرا وربما طفوليا، فهو أما يبرر للوضع القائم وأما يفكر كيف يرد عليه نظريا وأيديولوجيا، مما يعني أن تصورا إسلاميا اقتصاديا لدولة إسلامية حديثة مازال أمرا بعيدا. ثانيهما أن ارتباط مصر اقتصاديا بالمنظومة الاقتصادية الرأسمالية العالمية والنظام العالمي الجديد هو ارتباط خطير، لأنه يعني معونات رسمية وقروضا دولية، وهناك مؤسسات مصرية – كالمؤسسة العسكرية– تعتمد في عملها على الخارج بشكل رئيس (برامج التسلح والتدريب والتحديث والتعاون الاستراتيجي في حالة المؤسسة العسكرية)، كما أن أعباء الاستيراد أمر لا يغفله احد، خاصة إن تذكرنا أن كثيرا من سلعنا الاستراتيجية تأتي استيرادا بالأساس. وإذا اضفنا البورصة والاستثمارات الأجنبية في مصر، فسيظهر لنا التحاق قوي وخطير للاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي. هذه الأمور الاقتصادية الثلاثة: خلفية الإخوان والشاطر وفقر الاجتهاد الاسلامي وارتباط الاقتصاد المصري البالغ بالخارج- يجعل تفاهم الإخوان مع النظام العالمي الموجود احتمالا قويا، أي أن الدولة الجديدة التي سيقيمها الإخوان المسلمون– في حال تبني هذه الرؤية – لن تكون جديدة تماما، بل وقد تصبح نسخة إسلامية منها وليست دولة اسلامية جديدة، أو حتى على الاقل دولة جديدة. 3. رؤية الصديق العزيز تفترض وجود الكادر الإخواني المستعد والمؤهل للقيام بأعباء الدولة كاملة، وهو أمر مشكوك تماما في صحته هذه الايام بعد انكشاف الأداء البرلماني لنواب الإخوان. فالروايات والشائعات التي قالت قبل انعقاد البرلمان أن للإخوان أجندة تشريعية وضوابط وآليات جاهزة للتنفيذ، اتضح لنا جميعا أن كل هذا لم يكن في الحسبان، مما جعل البرلمان مكلمة لمن لا مكلمة له، بدون إصدار تشريع حقيقي واحد حتى الآن، وهي المهمة الحقيقية للبرلمان. إن أضفنا إلى هذا أن العديد من العناصر الفنية لإدارة الدولة يفتقدها الإخوان في تنظيمهم أو في محيطهم هو أمر بالغ الخطورة، فمثلا في نفس السياق الاقتصادي، يفتقد الإخوان لعناصر وخبرات الإدارة العامة (Public Administration)، فيما يتعلق بإدارة موارد الدولة، وليس إدارة موارد شركة أو منظومة اقتصادية لجماعة سياسية. 4. لن تقبل معظم القوى السياسية بهذا الطرح، وربما يتم ترضيتهم بمقاعد في الحكومة وما شابه. لكن هذا لا يمنع وجودهم كعنصر ضغط على الأطروحة قد تهدد بفشلها إذا تحالفت هذه القوى مع المجلس العسكري أو مع قوى خارجية ضاغطة، كما أن تقبل الشعب لهذا الطرح سيعتمد على الشكل الذي سيخرج به، وسيعتمد أكثر على نتائجه مما يعني ان عنصر الشعب -وهو عنصر فارق في المعادلة بعد الثورة – سيكون عنصرا ضاغطا على الأطروحة وليس عنصرا مساعدا أو حياديا، خاصة بعد الغربلة التي حدثت السنة الماضية وتضرر منها الإخوان، كبقية القوى السياسية كثيرا. 5. إمكانية تحقيق الأطروحة سيكون أمرا مولدا للجدل، فموقف قوى أخرى كثيرة على الساحة ليس مع الإخوان. فشباب الثورة–وعصبها– مازال يحمل الكثير من الغضب والجرح تجاه مواقف الإخوان في الفترة الماضية. والجزء الأعظم من جمهور السلفيين وحزب النور يضع حازما أبو إسماعيل كرمز للمنقذ، بل إن جمهور الإخوان يعاني انقساما نتيجة موقف الجماعة من عبد المنعم أبو الفتوح. بل إن موافقة المجلس العسكري على مثل هذا الطرح أمر ضروري، خاصة فيما يتعلق بموقف خيرت الشاطر القانوني، وهو أمر قد يثار بقوة ويصبح مدخلا أو أداة ضغط. فإذا كانت الحملة المثارة الآن عن جنسية والدة أبو إسماعيل نبشا في الرمال عن أي عائق يحول دون وصوله لسدة الرئاسة، فموقف خيرت الشاطر القانوني لا يحتاج إلى نبش أو بحث. 6. تستند أطروحة الصديق العزيز، فيما تستند اليه، إلى ثقة في قرارات وتوجهات الجماعة حول مسألة عدم التراجع عن بناء دولة جديدة، وهي ثقة أرى أن الكثيرين لم يعودوا يملكوها هذه الايام. 7. إن تيار الفكرة – بحسب تعبير صديقي العزيز– هو الذي قاد ويقود الإخوان الآن، وهي قيادة رأينا ورأى منها العديدون كثيرا من التنازلات والمواءمات والتوافقات فاق ما يمكن أن تحتمله التبريرات والدفوعات عن المواقف، مما يلقي بظلال الشك حول مدى قدرة نفس التيار على مجابهة ما هو أصعب بكثير عند قيادة دولة كاملة. 8. تحمل رؤية صديقي العزيز نقطة هامة، وهي مسألة قدرة المجلس العسكري على إفساد الفترة القادمة، حتى وإن من وراء ستار، وهو أمر اتفق فيه تماما، بل وأخشى أن يتكرر سيناريو الثورة الاسبانية في نهاية عشرينات القرن الماضي، والتي أطاحت بالملكية، وأقامت الجمهورية الأسبانية. لكن لمدة خمس سنوات، انغمست الحكومة الديموقراطية في صراعات سياسية كثيرة مع الأطراف السياسية المختلفة مع بعضها البعض، مع إهمال الجوانب الاقتصادية والحالة المعيشية لعموم الشعب. فأدى ذلك لحركة تمرد قام بها الجيش بمساعدة الكنسية –خاصة مع توجهات الحكومة الديمقراطية العدائية للكنيسة – وهو ما أدى لقيام الحرب الأهلية الأسبانية. فهزمت فيها القوى الديموقراطية، وقامت فيه الدولة الديكتاتورية بقيادة الجنرال فرانكو، واستمرت حتى منتصف سبعينات القرن الماضي، وما زالت أسبانيا تعيش مشكلات اقتصادية حتى الآن. وهو سيناريو أرجو ألا يحدث هنا، لكنه احتمال قائم ويجب حسبانه!!!