إن أكثر ما يشغلني، لا سيما بعد قيام عملية السلام، هو تشتت الجسم الوطني الفلسطيني بوتيرة منتظمة وافتقار الحراك الداعي إلى تقرير المصير إلى رؤيةٍ سياسيةٍ للتوصل إلى حل. فقد نجمت عن ذلك ظروفٌ عديدة أدت إلى نشوء مظلوميات وشكاوى متمايزة ومتباينة، وبرزت المصالح الذاتية في أوساط الجسم الوطني الفلسطيني على أساس الموقع الجغرافي والحالة المدنية. تتوقف مظلوميات الفلسطينيين على موقعهم الجغرافي (أي غزة، والضفة الغربية، والقدسالشرقية، وإسرائيل، والعالم العربي، وما وراء ذلك) وحالتهم السياسية (أي مواطنون من الدرجة الثانية، ومقيمون، ومدنيون تحت الاحتلال، ولاجئون، ومواطنون في دول أخرى). لقد قزَّمت هذه التباينات العمل الجماعي داخل الجسم الوطني الفلسطيني ككل. ومع ذلك، وبينما أفرزت الظروف المحلية مظلوميات موضعية مختلفة، فإن تلك مظلوميات ما نزلت بكل مجتمع إلا بسبب قوميته الفلسطينية. وحتى حينما تتشابه الظروف التي تعانيها المجتمعات الفلسطينية، تظل تلك المجتمعات عاجزةً عن التنظيم الجماعي، نظرًا لكونها مشتتةً ومجزأةً بسبب الحدود وبطاقات الهوية. أفرز التشتت الجغرافي والمدني مصالح ذاتيةً متنوعةً قائمةً على المنافع المالية والسياسية المتأتية من صناعة عملية السلام ومشروع بناء الدولة، ممّا يعرقل العمل الجماعي. ففي غزة يوجد المئات الجُدد من أصحاب الملايين الذين تكسّبوا من صناعة الأنفاق، وبالتالي من الحصار. وفي المنطقة "ألف،" يجني رجال الأعمال الفلسطينيون أرباحًا كبيرةً من المستجدات في دويلتنا حيث تتسنى لهم السيطرة على الاقتصاد ولا سيما على العقارات. لقد أعاقت التظلمات المختلفة والمصالح الذاتية المتنوعة، مجتمعةً، قدرةَ الشعب الفلسطيني على بلورة رؤيةٍ سياسيةٍ ترتكز إلى استراتيجية للتحرر الوطني. وأدى هذا الوضع إلى فراغٍ أخذت تملؤه الحركات غير المتصلة فيما بينها في الشتات والعابرة للحدود الوطنية الساعية إلى معالجة تشتت الجسم الوطني الفلسطيني وإقامة حركةٍ حقوقيةٍ عالميةٍ مبنيةٍ على طراز (BDS)، أي "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" بهدف ممارسة ضغوطات على دولة الفصل العنصري الإسرائيلية. وفي حين أن الجهود الرامية إلى معالجة تشتت الجسم الوطني الفلسطيني هي جهودٌ طيبةٌ وجديرةٌ بالإعجاب، فإن كونها جهودًا وليدةً ومحدودةً يدل على عجز حركات الشتات عن معالجة التشتت الوطني من الخارج. أما بالنسبة لجهودها في بناء حركة حقوقيةٍ عالميةٍ تقوم على المقاطعة، فإن اللجنة الوطنية للمقاطعة، رغم كونها الجسم الفلسطيني الأكثر "تمثيلًا" في الوقت الراهن، تمتلك أهدافًا قائمةً على الحقوق وليس الحلول وهذا يعني أنه ليس بوسعها أن تكون منبرًا يلتقي فيه الفلسطينيون لمناقشة رؤيةٍ سياسية وبلورتها من أجل تقرير مصيرهم. لذلك فإن: 1) التمثيل ليس هو الحل. فلن يساعد الجسم التمثيلي إلا في التغلب على معوقات العمل الجماعي، غير أن ذلك ليس كافيًا للتعبئة. فالمشكلة تكمن في الافتقار إلى برنامجٍ سياسي وليس إلى جسمٍ تمثيلي. وبالنظر إلى التظلمات المختلفة لدى الفلسطينيين، فإن وجود تمثيلٍ مسؤولٍ هومتطلبٌ ضروري لتسجيل التظلمات داخل الجسم الوطني الفلسطيني بما فيها انعدام المساءلة عن جرائم الحرب المرتكبة في غزة إبان عملية الرصاص المصبوب وعن الحصار البري والبحري المستمر الذي دخل عامه الخامس في 2012؛ والمواطنة من الدرجة الثانية في إسرائيل التي تُفضي إلى تمييز مُمَأسس على صعيد السكن والتعليم والتوظيف؛ ونفي اللاجئين الفلسطينيين قسرًا وافتقارهم إلى الحماية في الدول المستضيفة لهم على امتداد العالم العربي؛ واستمرار المستوطنين الاستعماريين اليهود وقوات الاحتلال الإسرائيلي في مصادرة الأراضي الفلسطينية وهدم البيوت وممارسة العنف ضد الفلسطينيين المدنيين في الضفة الغربية. يشترك الفلسطينيون جميعًا حيثما كانوا، سواء داخل الخط الأخضر أم في الأراضي المحتلة أم في الشتات، في ظرف واحد وهوتعرضهم إلى التهجير القسري أوما يُعرف بالتطهير العرقي. إن السياسة المتمثلة في اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم وتوطين رعايا يهود و/أو زراعة الأشجار مكانهم هي سياسةٌ ألِفها الفلسطينيون كلُّهم بصرف النظر عن موقعهم الجغرافي وحالتهم المدنية. ومن ذلك تهجير الفلسطينيين قسرًا في الجليل والنقب داخل إسرائيل؛ وفي القدسالشرقية والمنطقة "جيم" وغور الأردن في الضفة الغربية؛ وتهجير اللاجئين في الشتات. وعلى أساس هذا الظرف المشترك، يتسنى للجسم الوطني الفلسطيني أن يضع برنامجًا سياسيًا من داخل إسرائيل والأراضي الفلسطينيةالمحتلة والشتات العالمي يهدف إلى الوقوف في وجه التطهير العرقي المستمر والممنهج الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين. إن بلورة حلٍ سياسي يُحبط هذه العملية يرقى لأنْ يكون رؤيةً سياسيةً أجزم بأنها مفقودةٌ حاليًا. 2) إن ظرفنا الاستعماري هومنبع مشاكلنا وليس مكمن حلّنا. فإفراط شرائح عريضة ضمن حركتنا في التركيز على ماضينا أعاق قدرتنا على تصور المستقبل. فبدلا من التفكر في آفاقٍ وأساليب جديدة لتنظيم أنفسنا، ما فتئنا نُمجِّد الماضي ونساوي بين تقرير مصيرنا والعودة إلى ظرفنا السابق. ولا أظن أن ذلك هو: (أ) ما نحتاجه؛ ولا (ب) ما يؤمِّن الحلّ الأوفى لظرفنا الاستعماري. وفي هذه المرحلة التاريخية من الاحتلال العسكري المستمر في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، والتمييز المُمَأسس داخل إسرائيل الذي يفرق بين المواطنين اليهود وغيرهم، يسود الفصل العنصري في إسرائيل والأراضي الفلسطينيةالمحتلة. وعليه، فإن الدفاع عن العودة إلى الوضع السابق للاستعمار الصهيوني لن يكون كافيًا لإنصاف التظلمات الوطنية الفلسطينية. وعوضًا عن ذلك، أرى بأن بناء حركةٍ تستهدف التصدي إلى نظامٍ يحابي المواطنين اليهود ويحرم الفلسطينيين العرب غير اليهود من حقوقهم هوالإجراء الأكثر ملاءمةً. 3) المقاربة الحقوقية هي فعلًا بوصلة، ولكنها لا تُبين الوجهة. فأنا لا أعيب على اللجنة الوطنية للمقاطعة لأنها لا تسعى أنْ تكون المنبر للجسم الوطني التمثيلي. بل على العكس من ذلك إذ أوكد بأن قطاعات عريضة في حركة التضامن قد أناطت باللجنة الوطنية للمقاطعة، رغم أنها تتبنى برنامجًا قائمًا على الحقوق وليس على الحلول، وكالةً سياسيةً تنفيها اللجنة نفيًا صريحًا. وفي حين قد يكون الدعم الذي تقدمه اللجنة الوطنية للمقاطعة لأجندة حقوق الإنسان كافيًا لحركات التضامن، فإنه ليس كافيًا على الإطلاق بالنسبة للفلسطينيين المحتاجين إلى رؤيةٍ وأهدافٍ سياسية. فرغم أن المقاربة الحقوقية بوسعها أن تكون البوصلة، فإنها لا تبين الوجهة. وأنا معنيةٌ أكثر بتلك الوجهة في مقالتي. ولعلنا، كفلسطينيين، نُمعِن في الرثاء لحالنا لأن خطر التعرض إلى التوبيخ يكون أقل عند تشخيص مُصاب حالتنا الوطنية منه عند تشخيص العلاج الأمثل له. وأنا أجازف بالتعرض إلى نقد لاذع إذ أقترح بأنه: أولا، ينبغي للهيئات الفلسطينية التمثيلية، مجتمعةً أوفرادى، أن تجعل من استمرار عملية تهجير السكان قسرًا، أو التطهير العرقي، الظرف المشترك بين الفلسطينيين كافة على اختلاف مواقعهم الجغرافية ومراكزهم السياسية. وهذا التطهير العرقي قائمٌ على أساس التمييز بين المواطنين اليهود وغير اليهود من الفلسطينيين العرب وهو لا يفرِّق بين الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل والقاطنين في القدسالشرقية والمدنيين في غزة والضفة الغربية واللاجئين المنفيين قسرا. ويرقى هذا التمييز المُمَأسس، المتّسِم بالتفرقة والهيمنة، إلى الفصل العنصري في إسرائيل والأراضي الفلسطينيةالمحتلة. ثانيا، ينبغي للفلسطينيين، لأجل معالجة هذا الظرف معالجةً شاملةً، أن يتبنوا حل الدولة الواحدة كرؤيةٍ سياسيةٍ هدفها تحقيق المساواة بين الجميع بغض النظر عن هوياتهم القومية والإثنية والدينية والعرقية. فإذا ما تبنينا حل الدولة الواحدة، فإننا ندعو إلى تفكيك العنصرية المُمَأسسة التي تحابي المواطنين اليهود على حساب نظرائهم الفلسطينيين العرب من غير اليهود، وذلك بدلا من دعم إقامة دولتين منفصلتين كل دولةٌ منهما متجانسةٍ إثنيًا. ومن ناحية، تُضحّي هذه الرؤية بالقومية لصالح مفهومٍ أكثر ليبرالية للمساواة والديمقراطية والتعددية. إن حل الدولة الواحدة يُعيد تعريف المفهوم التاريخي لمبدأ تقرير المصير من كونه حكمًا ذاتيًا في إطار دولةٍ قومية إلى مفهومٍ يشمل الجميع ولا يقتضي التجانس القومي. وفعليًا، يتعين على الفلسطينيين قبول الحضور الدائم للإسرائيليين على أرض فلسطين الانتداب والإزالة المتزامنة لهويتها الصهيونية ودستورها الصهيوني. وفي الدولة الواحدة أيضًا، لن يُسفر تقرير المصير الفلسطيني عن حكم ذاتي فوري، وإنما عن فرصة متكافئة في حكم أنفسنا وتقرير مصيرنا الوطني جنبًا إلى جنب مع نظرائنا المتنوعين. إن ما تقدم لا يتطرق إلى مسألة "الكيفية" ولا إلى الخطوات الضرورية لتعويض تراكمات العنف والخسائر والطرد على مدى 64 عامًا من الاستعمار الاستيطاني. وسيكون هذا ربما موضوعا لمقالة أخرى.