اختتم المؤتمر العربي التركي الثاني للعلوم الاجتماعية فعالياته، مساء أمس الإثنين 19-3-2012، في جامعة القاهرة، موصيًا باستمرار التلاقي بين الباحثين العرب والأتراك كأحد الروافد الفكرية والعلمية المعينة على إنجاح الثورات العربية في تحقيق أهدافها، وعلى زيادة نجاح التجربة التركية، كما أوصى المؤتمر بالتخلص من النظرة الاستشراقية التي شكلت الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي في القرن العشرين، وتشكيل نظرة حضارية جديدة خاصة به. والمؤتمر الذي انعقد في الفترة من 17-19 الشهر الجاري بالتعاون بين مركز الدراسات الحضارية وحوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومركز التفكير الاستراتيجي بتركيا، تحت عنوان "الفواعل من غير الدول والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الشرق الأوسط" جاء ضمن جهود التقريب بين الشعب التركي والشعوب العربية، وناقش تأثير المنظمات والحركات والمبادرات غير الحكومية في إعادة تشكيل الخارطة والعلاقات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط، من وجهة نظر عربية وتركية، خاصة بعد قيام الثورات الشعبية في عدد من بلدانها. وفي هذا الإطار ناقش المؤتمر دور منظمات المجتمع المدني والمراكز الفكرية والأوقاف الأهلية ووسائل الإعلام والإنترنت والجامعات وغيرها في إحداث التغييرات الكبرى التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط في عام 2011، وعلى رأسها الثورات الشعبية في عدة بلدان عربية، وكذلك في إحداث التغييرات السياسية والاقتصادية التي تشهدها تركيا منذ 10 سنوات، والتأثير المتوقع لها على إعادة تشكيل هوية الشعوب الإسلامية وعلى العلاقات العربية التركية المقبلة. وركزت الأبحاث المقدمة على دور كل من الأوقاف في عملية التنمية، خاصة في مجال التعليم، ومنظمات حقوق الإنسان ومواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت والجامعات والعمال في التمهيد للثورات الشعبية، وأدوارها بعد الثورة، وكذلك واقع ودور الجماعات "الإسلامية" مثل جماعة "الإخوان المسلمون" والتيار السلفي قبل وبعد الثورات، خاصة في مصر، ودور الثورة في ليبيا وسوريا بشكل خاص في خلق مجتمع مدني غاب عن البلدين بشكل شبه كامل تحت ظل النظام الاستبدادي. النجاح التركي: وفي الجلسة قبل الختامية قال الدكتور أحمد أويصال، الباحث في مركز التفكير الاستراتيجي بأنقرة ومنسق المؤتمر، إنه يتلقى أسئلة كثيرة ومستمرة حول سر نجاح التجربة التركية، مجيبًا عليها بأنه "لا يوجد حل سحري لنجاح التجربة التركية، فسر نجاح التجربة التركية هو الشعب، وانفتاح حزب العدالة والتنمية على كل مكونات المجتمع دون تمييز على أساس أيديولوجي أو غيره".ومجيبا على نفس السؤال قال الدكتور بيرول أكجون: "نحن في تركيا استفدنا من الكتابات العربية كما استفدنا من الكتابات الغربية، وقمنا بمراجعة تاريخنا منذ العهد العثماني وحتى الآن، فكنا نقوم بتعديل النظام السياسي وتطويره". كما أشار إلى أن نجاح الثورات العربية في تحقيق أهدافها سوف يضيف نجاحًا للتجربة التركية: "نحن نتقاسم معًا تجربتنا وتجربتكم، ولذا نعقد المؤتمرات ولا نعتبر أنفسنا في مصر ضيوفا أو أجانب، وأنتم كذلك عندما تأتون إلى تركيا لا نعتبركم ضيوفًا أو أجانب، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها". وكان قد شارك في افتتاح المؤتمر في يومه الأول يوم السبت الماضي، الدكتور بشير أتالاي نائب رئيس الوزراء التركي، ووزير الثقافة الفلسطيني في حكومة غزة محمد المدهون، والدكتورة نادية المخزون وزيرة البحث العلمي المصرية، والدكتورة هبة نصار نائبة رئيس جامعة القاهرة، والدكتورة باكينام الشرقاوي رئيس المؤتمر المشارك (مصر) والدكتور ياسين أقطاي رئيس المؤتمر المشارك (تركيا)، إضافة إلى أكثر من 60 باحثًا. نظرة جديدة: وتلا الدكتور ياسين أقطاي، رئيس معهد الفكر الإسترايتيجي بأنقرة، ورئيس المؤتمر من الجانب التركي، البيان الختامي للمؤتمر، قائلا إن المؤتمر انعقد لوصل ما انقطع من علاقات بين الشعوب العربية والتركية لسنوات طوال، مركزا في الدورة الحالية على ثورات الربيع العربي، والتحديات التي تواجهها في مسيراتها لاستكمال أهدافها التي قامت من أجلها. وأضاف أقطاي أن من أهداف المؤتمر التخلص من النظرة الاستشراقية التي شكلت العالم الإسلامي في القرن 20، وتشكيل نظرة حضارية جديدة خاصة بالعالم الإسلامي، مؤكدا أن القائمين على تنظيم المؤتمر ينتظرون انعقاد الدورة الثالثة له بفارغ الصبر؛ حيث المقرر أن ينعقد سنويا. وسبق أن استضافت أنقرة المؤتمر العربي التركي الأول للعلوم الاجتماعية ديسمبر 2010، والذي بدأ كأرضية لحوار ثقافي أكاديمي متسع بين الأكاديميين والباحثين العرب والأتراك، تناول العلاقة التاريخية والمعاصرة بين الثقافة والبحث العلمي في كافة المجالات، كالتعليم والإعلام والرياضة والفنون والسياسة وغيرها، وتأثير كل هذا على نوعية العلاقات بين العرب والأتراك وبينهم وبين العالم. وكانت المهمة الأساسية للمؤتمر هي تقوية العلاقات الفكرية والبحثية بين الأكاديميين العرب والأتراك في العلوم الاجتماعية؛ خاصة أنه في ظل موجة التقارب الثقافي بين الشعوب العربية والتركية في السنوات الأخيرة فإن التقارب بين الباحثين في العلوم الاجتماعية مازال هشًا وضعيفًا. والشكل الذي يهدف المؤتمر إلى الوصول إليه للربط بين الباحثين العرب والأتراك هو كيان مؤسسي لدعم التعاون الأكاديمي العربي والتركي، تخرج منه وتصب فيه الأبحاث المشتركة. تشريح ثورة ما بعد حداثية: في الحلقة النقاشية التي حملت عنوان "الثورة المصرية بعيون تركية" والتي أدراها الباحث والمفكر الفلسطيني، ومدير تحرير موقع "التغيير، د. مازن النجار، قُدمت أربعة أبحاث هامة كان أبرزهم بحث حمل عنوان "تشريح ثورة ما بعد حداثية :مصر 2011" والتي قدمها الباحث التركي اسماعيل نعمان تلجي، حيث ركز الباحث على أن الثورة المصرية لا يمكن فهمها أو تحليلها من خلال وجهة نظر الخطاب الاستشراقي، أو التحليل الاقتصادي، أو علم الاتصال والمعلومات، معتبرا أن هذه قوالب جامدة ونمطية لا يمكن بأي حال من خلالها تفسير الثورة المصرية. وفي التدليل على أن الثورة مابعد حداثية، اعتبر تلجي أن الدراسات الاستشراقية كانت غاية في "العقم" حينما عجزت عن تفسيرها، وعن حتى توقع حدوثها، وأن الثورة كانت أشبه ب"انقلاب أبيض"، حيث كانت لها هوية مفاجئة متجاوزة للهويات الكلاسيكية الموجودة على الساحة المصرية، حيث شارك في صنعها اليمين واليسار والمستقلين وغيرهم. ثم أكد الباحث على أن الثورة لم يكن لها فعلياً قيادة مركزية، أو قيادة فردية، أو قيادة أيدلوجية كالذي تم مشاهدته في الثورات الأخرى، كما أنها لم تقدم شعارات حداثية كالحديث عن حقوق( الطبقة العاملة) أو شعارات قومية، أو حتى شعارات إسلامية، ومن ثم ساعدت هذه الثورة على وضع هويات متنوعة ومتعددة في "بوتقة الانصهار لتخرج بهوية جديدة لها، فريدة ومميزة. الباحث التركي أشار أيضاً بأن الثورة المصرية تدافع فيها الزمان والمكان، وأن المكان( التحرير) لم يكن بالضرورة مركزياً بل كانت هناك ثورة في كل الميدان والشوارع. ثم تحدث عن أن الثورة امتلكت اللغة التي خاطبت بها العالم، وتلقت من بعدها تصفيقا ودعماً معنوياً، ساعد هذا الدعم "المعنوي" هذه الثورة في تسريع دينامكيتها. الباحث علق تعليقاً ظريفاً على المشاركة الجمعية والجماعية في خلق الثورة، حينما شبهها بالمسرح التجريدي، الذي كان يصعد عليه ممثلون، كل منهم يؤدي دوراً ينال عليه التصفيق من الجمهور، ثم ينزل ليصعد بدلاً منه ممثل آخر يقوم بالتمثيل وهكذا.. أخيراً، أكد الباحث على أن لابد من تطوير مناهج وأدوات جديدة يمكن من خلالها رصد هذه الثورات البعد حداثية لتجعلها أكثر استجابة للتحليل والرصد. الحركة السلفية في مصر: في ورقة بعنوان" الحركة السلفية في مصر قبل وبعد الثورة" للباحث محمد سليمان الزواوي، نبه الباحث على أن السلفية في مصر أنواع وتيارات مختلفة لا يجمعها تنظيم محدد، ولا تتفق على اتباع شيخ بعينه، وتتحرك المدرسة السلفية تحت ثلاث يافطات بالأساس هي، السلفية العلمية والحركية والجهادية، وتتميز الحركة السلفية بالمناطقية، أي أنها تقوى مثلا في مناطق بعينها مثل الإسكندرية وكفر الشيخ عن مناطق أخرى؛ وساعد على ذلك أمن الدولة الذي كان يمنع في عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك انتقال شيوخ السلفيين من محافظة إلى أخرى إلا بتصريح وبحساب. وعن دور الحركة السلفية في ثورة 25 يناير قال الباحث إن الحركة السلفية لم تشارك فيها بشكل منظم، ولكن الحضور السلفي كان ظاهرا في الميدان، فبعض السلفيين أعلن بشكل صارم رفضه للثورة وانحاز للنظام الحاكم حتى سقوط مبارك، والبعض رفضها في البداية ثم لحق بها بعد عدة أيام، والبعض صمت وظل صامتا حتى سقوط مبارك، والبعض الآخر شارك بقوة من أول يوم. وبعد أن فُتح الباب تشكلت أحزاب سياسية سلفية عكست التشرذم، لكن أقواها كان حزب النور الذي يعتبر ذراع سياسية لجماعة الدعوة السلفية. تحديات الحركة السلفية: وبعد الثورة تواجه الحركة السلفية تحديات فيما يخص مستقبلها في الحياة السياسية، أكبرها هو كيف تحول نجاحها من التعبئة والحشد الذي قامت به في الانتخابات التشريعية إلى نجاح آخر بقدرتها على صياغة وإنتاج خطاب توافقي حسه الوطني يعلوا على حسه الأيدلوجي؛ وهو ما لم يحدث حتى الآن—وفقا للباحث—بمعنى أنها نجحت في استقطاب الجماهير وحشدهم لتأييدها عبر الصناديق، لكنها وقعت في فخ "خطاب اقصائي" أو تصدير خطابات عمومية غامضة مثل الحديث عن تطبيق الشريعة، لكنها لا تقدم إجابات عن أسئلة كيف تطبقها ومتى وأين، وكذلك عندما تتكلم عن إقامة الخلافة الإسلامية، لا تقدم إجابات واضحة حول شكل هذه الخلافة الموافقة تطورات العصر، هل هو بالنظام الوراثي القديم وإقامة حاكم واحد لكافة البلدان الإسلامية أم كونفدرالية أم غير ذلك. الفرق بين التجربة الإسلامية المصرية والتركية: وهنا يبرز بقوة الفرق بين الخطاب السلفي في مصر—وأغلب المجموعات الإسلامية—المعتمد على مفرادات الشريعة الإسلامية والخلافة إلخ، وبين خطاب حزب العدالة والتنمية في تركيا، الذي لا يصدر خطابًا يوصف بالإسلامي، رغم أن الكل يتعامل معهم على أنهم "إسلاميون"، ولكنهم يتبنون خطابًا يحمل مفردات يتفق عليها كل الأتراك كالحرية والديمقراطية والعدالة إلخ، وتضمين برنامجه برامج إصلاحية حقيقية مثل إصلاح الاقتصاد وتقويته ورفع دخل المواطن التركي، فكسب بذلك تأييد قطاعات كبيرة داخل التيار الليبرالي واليساري وغيرهما من التيارات التركية. وعلى هذا فإن على السلفيين في مصر، كما يقول الباحث، عليهم ألا يقنعوا ب"الفوز الخادع" القائم على حشد الناس ضد ساويرس أوغيره، وعليهم ألا يفرحوا بالكثرة في البرلمان. دور المجتمع المدني في الثورة السورية: قدم الباحث أجناسيو ألفاريز أوسيريور ورقة بعنوان " دور المجتمع المدني في الثورة السورية" والتي ألقيت في اليوم الثاني من أيام المؤتمر، حيث أكد الباحث على أن المجتمع المدني شبه منعدم في سوريا خصوصا الجمعيات والمؤسسات الحقوقية والثقافية، واعتبر الباحث أن هذا الأمر من المؤشرات الدالة على أنه لا توجد منظمات قدمت أجندة سرية للثورة، بل هي مطالب شعبية مشتركة كإلغاء حالة الطوارئ، وتأسيس النظام التعددي، وعمل عقد اجتماعي جديد لإدارة البلد. ونوه الباحث على أن إدارة الثورة في سوريا تواجه حاليا 5 مشاكل تتعلق بالمجتمع المدني، منها أن ضغط النظام على المجتمع المدني قبل الثورة ولد فراغا وعدم تنظيم في إدارة الثورة، كما أن الأرضية الاجتماعية للمثقفين ضعيفة خاصة أن غالبيتهم يعيشون في المنفى أو معتقلين لا يستطيعون إيصال صوتهم للداخل، كما أن الأقلية المثقفة هي التي يصل صوتها للعالم لا الأغلبية التي تواجه النظام على الأرض. كذلك من العوائق أن الجماعات السياسية كالناصريين واليساريين والإخوان المسلمين وغيرهم لا يستطعيون التجمع في الداخل للتنسيق بينهم. واختتم الباحث كلامه عن دور المثقفين في الثورة السورية بكلام للناشط السياسي والكاتب هيثم المناع الذي قال: إن المثقفين لم يخلقوا الثورة، بل هي صناعة الشباب، ولكن الشباب يحتاج دعما سياسيا، ونحن كمثقفين نسعى لتقديم هذا الدعم.