سيادة المشير طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تحية طيبة وبعد.. فلطالما فكرتُ أن أكتب في يوم ما رسالة للرئيس المخلوع مبارك أبكيه فيها حال مصر وما وصلت إليه، وأترجّاه أن يُتوَّج ملكاً في قلوب المصريين بأن يُصحِّح المسار، ولعلًّي سيادة المشير كنتُ بريئا في أحلامي تلك، ولكن من باب الصدق مع النفس فهي لم تكن براءة ولكنها كانت سذاجة حين ظننتُ أن سطورا قد تُغيِّر القدر أو تعصم الدماء أو تنهض بالوطن.. ولكني بنفس هذه السذاجة وجدتني أمسك القلم لأخط لكم هذه السطور.. سيادة المشير: حتى لا أُطيل عليك فاختصارا أنا شاب من شباب هذا الوطن، ولدتُ لأسرة تنتمي لِمَا يُسمّونها الطبقة المتوسطة، أنهيتُ دراستي الجامعية وقطعتُ شوطا في تحضير دراسات عليا في مجالي الطبي، عندي أحلام كثيرة وكبيرة تتعلق بالمستقبل ونجاحي المهني والحياتي، أحلم بأسرتي الصغيرة وأفكر كيف سأربي أبنائي وكيف سأضيف للحياة، وأشرد كثيرا في تصور مصر وهي نظيفة هادئة منظمة حضارية متقدمة.. شاركت كغيري من الشباب في ثورة يناير، لأكون واحدا من الذين عاشوا لحظة التنحي، ولا أكون مبالغا حين أقول إنها كانت أعظم لحظة في حياتي منذ بدأتُ أُدرك معنى الحياة وقيمة الوطن، كانت تملؤني الطاقة والهمة والحماس بعد تلك اللحظة، ورفعتُ رأسي عاليا في السماء مصدقا لتلك الهتافات: "ارفع رأسك فوق.. أنت مصري"، وهيّأتُ نفسي لانطلاقة مصر، ولكن سرعان ما خفتتْ تلك الروح بعد أن مرت الأيام ولا جديد!!.. وبعد شهر من التنحي كنتُ على موعد مع جنازة الشهيد زياد بكير الفنان التشكيلي الذي استشهد في يناير ولم يتم التعرف على جثته في مشرحة زينهم إلا بعد أكثر من شهر من الأحداث، وقفتُ بين جموع المصلين حينها خلف الجثمان البارد الذي فارقته روح صاحبها، لتبعث من جديد في دمي حرارة الثورة وتُحيي فيّ من جديد الهمة والعزيمة، وحينها أقسمتُ أني أبدا لن أفرِّط في حقه ولا حق كل الشهداء، ولن أرجع عن استكمال حرية مصر وإلا لحقتُ بهم.. ومرّت بعد ذلك الأيام حُبلَى بالأحداث لتُقدّم كل يوم قرابين جديدة على مقصلة الحرية، ولكأنها تختار بعناية مََن تقدمهم من خيرة الناس وزهرة الشباب، وتتعالى مع سقوط الشهداء من جديد في داخلي أصوات الألم والحسرة والمرارة، فأُقلِّب في شبكة الإنترنت من جديد في فيديوهات أغاني الثورة والشهداء لأطالع أعينهم التي تُشعُّ بريقا خاصا لا زال محتفظا بنضارته وقوته رغم غياب أصحابها عن الحياة، وأنظر لابتساماتهم وقد أدركوا حقيقة الأمر وكُشف عنهم الغطاء، فأُطرِقُ إلى الأرض خجلا من أن أُطالِع تلك العيون خوفا أن تسألني: هل حققتْ ثورة مصر أهدافها؟ وهل أكملنا ما لأجله بذلوا دماءهم؟ فلا أملك ردا لسؤالهم. سيادة المشير: ليستْ مشكلتك فيما سبق من سطوري فهي مشكلتي الشخصية، ولكن المشكلة الحقيقية أنهم يُردِّدون أن المجلس العسكري لن يرحل عن المشهد بغير امتيازات خاصة في الدستور وفي ميزانياته وتشريعاته ووجود بعض التحكمات والقيود في أمور مصر الاستراتيجية، تقول لي والدتي: وما المشكلة يا بُنيّ؟! كفانا شهداء واضطرابات، وكفانا أيضا ما حققتْ مصر من إنجازات، فأنظر لها قارئا في عينها خوفها بتلك الكلمات عليّ، فتتسلّلُ كلماتها إلى قلبي أنْ لا بأس وكفانا ما حصدنا.. إلا أن وجداني ينتفض من جديد متسائلا: هل هذا ما دفعت لأجله هذه الدماء وزهقت لأجله كل هذه الأرواح؟! فتدفعني قوة جامحة أن أرفض هذا الأمر وأقرر أنه لا بديل عن استقلال كامل وحرية مكتملة لمصر، فكفاها أكثر من 60 عاما توقف على ساعة الزمن، وآن الأوان أن تنهض وتتحرّك وتكون قوة عظمى كما هو قًدَرها ومكانها، ولن يكون ذلك إلا بتحرّر كامل لقرارها وسيادتها والتي لا تنبع إلا من رأي الشعب واختياراته.. سيدي؛ ربما تقول: ما هذا العبث؟! وربما ترى أننا نريد السَّير عكس مسار الكواكب والأفلاك والكون، وتتساءل أصلا عن علاقة من هم مثلي من الشباب بمثل تلك الأمور؟! فأخبرك سيدي أنها ليست مشكلتي وحدي بل هي مشكلة جيل اشتاق للحرية حتى وصل للجنون إن كان هذا يسمى جنونا ، جيل يرفض أن يدخل في موائمات واتفاقات وتدرجات وتوافقات لا تحقق سقف طموحه الذي هو أصلا بلا سقف، وليس لجنونه دواء إلا تحقيق ما أراد أو الموت دون ذلك.. هذه هي مشكلتي سيدي المشير، أُرسلها لكم علّك تجد لي مخرجا آمنا مما أنا فيه، مخرجا من مطالبات دماء الشهداء وصرخات ضميري ووجداني ودفعات أحلامي وآمالي، مخرجا يُقدّم لي حصانة تضمن لي أن أنظر في المرآة فلا أرى فيها صور الشهداء وابتسامتهم، مُبصرا لنفسي عينين قد قدمها آخرون عن طيب خاطر هدية لحرية وطنهم. اختصصتُكم سيادة المشير برسالتي دونا عن المجلس العسكرى ككل، لأني أردتُ أن أُخاطب بها إنسانا لا مؤسسة، أخاطب بها بشريّا له قلب يقرأ به ما لن تحمله السطور، أردتُ أن أُخاطب فيكم روح مقاتل أكتوبر الشجاع، وطيبة النوبي المصري، وأناشد فيكم روح الأب الذي يخاف على ولديه.. أهيبُ بكم أنه آنَ الأوان لمصر أن تنهض حُرّة كاملة السيادة ليست تابعة لشرق أو غرب، ينطلق قرارها من إرادتها ولا شيء غير إرادتها، لا تعلو فيها مؤسسة على الدولة، ولا تُستثنى فيها جهة من الرقابة والمحاسبة، وهو ما سيحدث ولا شك عاجلا أم آجلا، ولكن الرّهان: كم من الدماء ستُبذل وبيدكم حقنها حتى يكتمل هذا الحلم؟!. لربما سيادة المشير لن تصلك رسالتي ابتداءً أو لعلك ستقرأ عنوانها أو أول سطرين بها ولن تصل لختامها، ولكن لعلّ رسالتي هذه تُخَضب يوما بدمائي وفاءً مني لوعدي وقسمي للشهداء، فتُحيي دمائي سطورَها، وتجد إلى وجدانكم مسارها.