كلما ادلهمت الأحوال والصعاب المحيطة بالأمة وازدادت التحديات والعقبات في طريق نهضتها، تزداد أيضاً أهمية الأفكار التي تنير طريقها، وتستلهم مخزونها الحضاري، وتبحث في روحها وميراثها وتجربتها التاريخية الممتدة بغير انقطاع عن المعنى والجوهر الذي يعطي وجودها أهميته ومغزاه وأسباب نهوضها وعوامل اندحارها وسنن التغيير في مسارها ومصيرها. فهي أمة التوحيد القديمة الخالدة والرسالة الخاتمة، ومكنتها تجربتها التاريخية الطويلة الممتدة عبر مراحل وابتلاءات عديدة من أن تستعصي على الفزع والانهيار والإبادة؛ وأتاحت لها تحقيق الصمود والانتصار والبقاء. هذه الحقائق والمعطيات المتعددة تحتم عليها الآن أن تستعيد إيمانها وثقتها بذاتها، وتحتفظ برباطة الجأش والثبات على الحق، وتتجاوز برؤيتها تحديات ومخاطر الواقع إلى آفاق الصمود والانتصار. إنها أمة على موعد مع حراك التاريخ وإيقاع التغيير الذين يصنعهما الوحي الإلهي، وينتظمان بمنظومة المطلق المقدس، ويخضعان لإرادة وتقدير الإله الواحد الأحد الأزلي القادر والمتجاوز، تباركت أسماؤه الحسنى وتقدست صفاته العلى. هذا الإيمان الراسخ يعصمها من التوتر والقلق والانهيار، فهي أمة تأوي إلى ركن شديد. في هذا السياق، هناك وظائف أساسية للفكر النهضوي ينبغي له أن ينهض بها. فلا بد للفكر النهضوي أن يستوعب تحديات الواقع، يدرسها ويحللها ويفككها ويتصدى لها. ويستهدف لذلك العقول والقناعات والأفكار، ببناء عقلاني واستنهاض لكوامن العز والإباء، واستلهام لروح الأمة وثقافتها ورصيدها الحضاري والإنساني. هذا النمط من التغيير في الرؤى والقناعات يجدد قدرة الأمم على التعامل مع مشكلات الواقع وتحدياته، فيتيح فرصاً جديدة، ويكتشف إمكانات مستجدة. من ناحية أخرى، ينبغي لفكر النهضة استيعاب عوامل الضعف والسيولة في أوضاع الأمة البنيوية والمفاهيمية الثقافية، وظروفها الجيوسياسية، وعوامل تبعيتها الفكرية والسياسية والاستراتيجية، وهشاشة مؤسساتها، وافتقادها للمظاهرة السيادية الحقيقية، وقصور إمكاناتها الراهنة عن التصدي للغزو الصهيوني والإمبريالي، ورد اختراق وهيمنة القوى الغربية الكبرى، وسيطرتها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، على مقدرات العالم العربي والإسلامي. في هذا السياق، ينبغي للفكر أن يشخص عوامل الهشاشة، ويحلل أسباب السيولة، ويبحث في التجربة التاريخية للأمة عن السبل التي سلكتها هذه الأمة في إطار التصدي لهذه السلبيات، بجانب فهم واستيعاب فكر واستراتيجيات العالم المعاصر، وصولاً إلى حالة من المنعة والمناعة والصلابة التي من شأنها تأمين ديار المسلمين وكف أيد الأمم الباغية التي تتداعى لنهب مواردها والسيطرة على إقليمها واستتباعها على كافة المستويات، وفرض رؤيتهم الكونية عليها. هذه المهمة: مهمة تصليب بنية وفكر الأمة، وتخليصها من الهشاشة الاستراتيجية والسيولة السياسية والمؤسسية هي إحدى أهم التحديات التي ينبغي تناولها في هذه المرحلة. من ناحية ثالثة، لم تعد أمتنا، منذ قرون، مساهماً أساسياً في حركة التداول الفكري العالمي، رغم أن هذه المهمة (الدعوة) هي أعظم أسباب وجودها. ففي القرون المبكرة للتجربة العالمية الإسلامية الأولى، اشتبك العلماء والمفكرون المسلمون في حالة جدل وتبادل فكري وفلسفي مع مختلف أفكار ونظريات الحضارات الكبرى في ذلك الزمان. فاطلعوا على مصادر الفلسفة اليونانية والهندية وجادلوا المانوية والزرادشتية، وأنتجوا فكراً قادراً على التحدي وإفساح المجال لرؤية الوحي الكونية ورسالة التوحيد الخاتمة بالظهور في العالم والتعبير عن تلك الرؤية بمنظومة عالمية عقدية وحضارية وفكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية وقواعد علاقات دولية. كانت هذه الرؤية الكونية نوراً وملاذاً وخلاصاً للبشرية الرازحة تحت نير الشرك والعبودية والفساد والظلم والظلام. لكن مع صعود العالمية الأوروبية المسيطرة في القرنين الأخيرين، بأسسها المادية العلمانية اللاربانية، تراجع كثيراً إسهام المسلمين في مجال التبادل الفكري العالمي، كما تنحّت رؤيتهم الكونية الربانية، ولم يعودوا في موقع يتيح لهم تقديم رؤيتهم الكونية للألوهية والإنسان والطبيعة ومصير الإنسان، بسبب ضعفهم الاستراتيجي ووقوع معظم بلادهم تحت السيطرة الإمبريالية الغربية، حيث أصبحوا هم أنفسهم هدفاً لحركة التبشير والاستعمار والتغريب والغزو الفكري. وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى ضرورة أن يعود المسلمون إلى مساحة التداول الفكري والحضاري العالمي والمساهمة في الحراك الثقافي الكوني الذي يتسع مجاله كل يوم باتساع مساحة ونطاق ووتائر العولمة. خلفية هذه القضايا ونقطة البدء والمآل في الأمر كله هي الإنسان الذي اصطفاه وكرمه الله، وأنطقه بالبيان، وعلمه الأسماء كلها، واستخلفه في الأرض، وأوحى إليه آياته وبيناته، وقدسه بالشرائع والشعائر، وكرس حرمته وحقوقه، وحرم ظلمه واضطهاده، وحرره بالتوحيد من كل طاغوت، وسخر له الكون كله. بذلك، يتميز الإنسان عن باقي مخلوقات الله، فهو يفكر ويتأمل، ويتلقى من الله، ويتعرف عليه ويتصل به، ويتقرب إليه، ويمتثل له، ويتفاعل معه. من تعريف الإنسان نصل لمفاهيم ومضامين متعددة وغنية حول المدخل الأمثل للمشاركة في ساحة التداول العالمي، وصولاً إلى قوله تعالى: "قل إنما أنذركم بالوحي ...".