إن الحلقة الأخطر في ما يجري من تغيرات في المنطقة العربية هي سورية! في عام 1967 وفي لقاء جمع مغتربين عرب في بيتنا في السفارة الأردنية في واشنطن اطلعنا الأستاذ بول جريديني والعامل في أحد مراكز البحوث الأمريكية على دراسة تخطط لتفتيت المنطقة العربية إلى كانتونات طائفية فضحكت ساخراً إذ كان ذلك في زمن عبد الناصر وعنفوان القومية العربية! لذا أرجو أن يقرأ كلامي بتجرد يضع مصلحة سورية فوق مصلحة أي طرف فيها، وكلامي لن يعجب النظام كما لن يعجب المطالبين بالحماية الأجنبية بل وكثير من المظلومين الذين بات الانتقام والثأر عندهم أهم من نتائج إلى أين تذهب سورية . لا أذكر أن أحداً غير الكاتب وبعض زملائه من داعمي سياسات سورية العربية والخارجية في السنوات البضعة عشر السابقة والذين كانوا يحظون باحترام النظام لهم كان ينتقد علناً وفي قلب دمشق في محاضراته القمع الأمني والدوس على الحريات وقبل ذلك خطيئة النظام في إرسال الجيش العربي السوري إلى حفر الباطن صفاً واحداً مع الأمريكان الذين غضت إيران أيضاً الطرف عن غزوهم للعراق بدلاً من أن تصدق مع ثورتها ضد الشيطان الأكبر فتقف في خندق العراق المحارب للأمريكانi، كما كانوا ينتقدون المساهمة السورية والأردنية والعربية الأخرى في الحصار الأمريكي بأيد عربية للعراق. والنتيجة الماثلة أمام أعيننا اليوم: تفتت العراق العظيم جناح المشرق العربي إلى أقاليم على طريق دويلات. الأمر الذي يبدو أن سورية تسيرعن بعد نحوه بسبب من عناد وداينوصورية نظام لم يستجب مبكراً لطلبات إصلاحية محقة بكل المقاييس وبسبب تصلب طلاب حرية هي حق مقدس لهم لكنها أصبحت اليوم مقرونة بثأر محق لكنه مدمر. النظام في تونس ومصر سقطا أو هكذا يبدو على أفضل تقدير لكن الدولة التونسية والدولة المصرية لم تسقطا . ولا نستطيع أن نقول عن ليبيا نفس الشيء لأن في ليبيا لم تكن هنالك دولة ابتداء بل عصبة ملتفة حول قيادة انتهت، وإن لم يتم التصالح والتسامح والارتفاع فوق الثارات معها (مع العصبة) فإن الثورة لن يهنأ لها بال وسيتعثر بناء دولة مستقلة بل ستكون دولة مستندة للأجنبي الذي يحمي ويقوي الجديد على القديم بعد أن كان لمدة طويلة السند للقديم. في تونس ومصر تفاجأ الغرب فوقف ضد الثورتين وتلقى من العالم ومن المجتمع الغربي كل نقد على دعمه للديكتاتوريات المستخذية لسياساته حتى فرض الشعب العربي فيهما إرادته. فبدأ يلهث وراء مصالحه لتأمين موقع قدم مع الجديد. وبتحليل مستند إلى عبقرية مقدمة ابن خلدون لم يكن لأي من الرئيسين في مصر وتونس عصبة قبلية من دم أو قرابة سوى عصبة المنتفعين والمرتبطين بالصهيونية والغرب ، وكانت عصبتهما الدعم الصهيوني والغربي فقط وهي عصبة ليس لها جذور لدى الشعب العربي العظيم في تونس ومصر وفي بلاد العرب كافة، بل هي عصبة تدفع بالشعب بكل تكويناته للالتفاف حول اجتثاثها مستعيداً وحدته القومية الوطنية بأرقى تجلياتها ،وتجمع الشعب ، كل الشعب ، ضدها لغربتها عن أبناء البلد الواحد. فاضطر الغرب للالتحاق بنتائج وحدة الشعب المباركة ضد ظالميه في تونس ومصر محاولاً التعايش معها مخططاً للهيمنة عليها بإيقاع الفتن ليعود راكباً إن استطاع. زد على ذلك أن في تونس ومصر قيض الله للشعب والدولة المؤسسة العسكرية (الجيش) لتبقى على الحياد طوعاً أو بجبر منطق الأحداث، مؤسسة قوية ألقي عليها حمل نقل دولة غير مفككة من نظام فاسد مستبد إلى حلم نظام جديد نأمل له أن يتحقق دونما انتكاسات. وجاهل مغامر من يعتقد أن سورية ليس فيها عصبة للنظام ، وقد يكون كثير من هؤلاء كما نعلم مع التوق للحريات والتحرر من الفساد إلا أن الخطأ في إدارة الصراع سيدفع بهم للتعصب لعصبتهم إذا استشعروا أن الثورة لن تميز بينهم وبين غيرهم . وبسبب من هذا التشدد من طرفين يطغى على أصوات الطرف الثالث الأكبر الذي هو مع الإصلاح الجذري بعيداً عن الأجنبي تسير سورية لا قدر الله باتجاه كانتونات بسبب من إدعاء كل طرف أنه هو الذي يمثل سورية مقصياً الآخر ، ومع تأكيدنا على أخطاء بل وكثير من الخطيئات التي مارسها النظام ضد حرية شعبه وسماحه للفساد بالاستشراء على أعلى المستويات فيما سبق واندفاعه الحالي المرعب في الحل الأمني القمعي الذي يذكي الثارات والأحقاد، إلا أننا نكون عمياً سذجاً إذا قررنا أن الشعب كله له مصلحة فيما يجري. وأن الشعب برمته مع إسقاط النظام. فإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود مؤسسة حيادية قوية قادرة على إبقاء الدولة وفرض الأمن والإدارة في مرحلة انتقالية مثل الجيش فإن من الجنون استمرار المسيرة نحو تدخل أجنبي لن ينجح بل ولا يرغب في إبقاء سورية موحدة. أنا لا أسعى لتبرئة أي طرف بل أحمل المسؤولية الأولى للنظام الذي لم يرض بالجلوس إلى معارضيه قبل بدء الانتفاضة وهم وطنيون قوميون بعلمانييهم ومتدينيهم نعرف كثيرأً منهم وتجمعنا صداقة وثيقة بهم ، صداقة مبنية على حلم الحرية للشعب العربي في كل مكان. وحتى بعد بدئها قبل أن ترتفع شعاراتها من إصلاح النظام إلى إسقاطه بسبب من "عبقريات" معالجات مسؤولي درعا ودعمهم بدلاً من محاسبتهم. ومع انحيازنا إلى المطالب المحقة لشعب مظلوم مقهور إلا أننا لا يمكن أن نقبل بشعارات وتصرفات تدعو لتدخل الأجنبي مهما بلغت التضحيات. فهل نسينا تاريخ "تحررنا" من العثمانيين بمؤتمر باريس في فرنسا التي كافأت طلاب الحرية والاستقلال باحتلال سورية وقتل الشهيد يوسف العظمة ورفاقه وبرفس قبر صلاح الدين برجل غورو وقوله ها قد عدنا يا صلاح الدين. إنها فرنسا التي سامت الجزائر خسفاً وما زالت ترفض تقديم اعتذار للجزائريين على استعمار استيطاني لمدة مائة وثلاثين سنة وعلى ذبح مليون شهيد. يعيبون على العرب عدم مساندتهم وكأن الشعب العربي في كل مكان حاله ليس كحالهم وأنه يملك أمره ويأمر حكوماته بالانحياز لدعم حريات هي دائسة عليها حيث كانت! إن إنقاذ الدولة السورية وشعبها العروبي العظيم لن يكون إلا بحل يحفظ مصالح الجميع ويحتاج إلى تنازلات تثبت وطنية المتنازل ، تنازلات من النظام الذي يجب أن يوقف الحل الأمني ويفرج عن المعتقلين ويقدم الفاسدين وكل من بطش بالناس للمحاكمة ويبدأ جدياً بالعمل على نقل مركز القرار إلى الشعب من خلال صناديق الاقتراع ،وكذلك تنازلات من الشعب الجريح العظيم الذي ضحى ويضحي ليتعالى فوق جراحاته وثاراته من أجل المحافظة على سورية. وإلا فالحرية المنشودة لن تتحقق في ظل دولة مستقلة بل في ظل ما يشبه الانتداب الأجنبي الذي يفرح الناس مؤقتاً إن نجح بحريات شخصية ممسكاً بحرية القرار السياسي السيادي بيده "الحنون". ومن حق من لا يعرفني من أبناء الشعب الغالي المضحي الذي انفجر في وجه القمع والاستبداد ويتعجب من مناشدتي هذه التي أتوجه بها إليهم للمساهمة في جعل حق سورية فوق أي حق لأي فريق كان أن يعلم بأن الاحترام الذي كنت (ولست أدري إذا ما زلت) أحظى به لدى النظام لم يكن نتيجة كثافة في الاتصالات بل بسبب مواقفي المناهضة للصهيونية والاستعمار والاحتلال الأجنبي .فلم أزر أي مسؤوول رسمي طوال حياتي سوى الرئيس في 3 آذار الماضي لأرجوه التجاوب السريع مع موجة الحرية القادمة والتي سماها المنصف المرزوقي محقاً ثورة عربية وليست ثورات وسوى مسؤول كبير آخر رغب بمقابلتي في اليوم التالي لمحاضرتي التي انتقدت فيها المظالم وقمع الحريات في 2 تموز 2006 في مكتبة الأسد وطالبت الحكومة السورية أن تصدق مع شعاراتها القومية بفتح المجال أمام لجنة من شخصيات عربية تحظى باجماع احترام الوطن العربي تشير على النظام دون أن تصد بحجة أن هذا شأن داخلي قطري. وكان اللقاء تجاوباً مع هذا المطلب الذي رأوا فيه حقاً لكنه لم ير النوربعد ذلك. بل إن زياراتي الأكثر كانت دائماً لأصدقاء معارضين وطنيين من الذين يرفضون أي نوع من أنواع الدعم الأجنبي. كما تجمعني منذ عام 1988 علاقات وثيقة بالمناضل الأستاذ هيثم المالح الذي تعودت زيارته وتناول الافطار الشامي الشهي معه في مكتبه أو منزله والذي رجوته هاتفياً قبل رحلته الأخيرة أن لا يخرج من سورية وان لا يفتح قنوات مع الأوروبيين وغيرهم فيحشرون أنفسهم من خلالها في الشأن السوري، وبقيت بعد ذلك أختلف معه وأرجوه والصادقين من إخوانه أن لا يقابلوا الخطايا بخطايا فتح الباب للأجنبي. إن من غير المقبول قول النظام أنه يمد يده إلى حوار المعارضين وأنهم هم الذين يرفضون. إن شرطهم كما كان شرطنا معشر شخصيات عربية حاولت في الشهرين الأولين التوسط لإجراء الحوار هو وقف الحل الأمني والتنكيل بالمتظاهرين السلميين والإفراج عن الموقوفين والمساجين. فكل من يرضى بحوار في غياب هذه الشروط مطعون في شرعيته مرفوض من الجماهير السورية والعربية وسيخلي الساحة للمطالبين بالتدخل الأجنبي. وعظم الله الأجر في حرية تنتقل من تحت الدلف إلى تحت المزراب هذا إن بقيت الدولة ولم تتفتت. فليصح النظام والمعارضون إلى مسؤولياتهم التاريخية في الحفاظ على الدولة ووحدتها وليقرؤا جيداً رسالة نلسون منديلا إلى الثوار العرب والتعلم من خبرته وخبرة جنوب أفريقيا في المساءلة والمصالحة التي قدمت مصلحة مستقبل الدولة على ماضي الجراحات والثارات وتسببت في مشاركة الخصوم السابقين معاً في مواطنة بمواصفات جديدة أنتجت النهضة التي تفاخر بها جنوب أفريقيا.