منذ أن أطلق محمد البوعزيزي صرخة الغضب الأولى في سكون الليل العربي والمنطقة تشهد تحولات متسارعة ترهق عين الملاحظ وذهن المتابع، وتطرح تساؤلات لا تنتهي حول المآلات والمستقبل. هرب بن علي وخُلع مبارك وقُتل القذافي (والحبل على الجرار في اليمن وسوريا كما يقولون)، وأصبح لا مفر من الانتخابات كآلية لاستلام السلطة (أو تحمل المسئولية)، مع توقعات بقدوم الإسلاميين وخاصة حركة الإخوان المسلمين المتفتحة أزهارها في حدائق الربيع العربي دون استثناء !! بعد فوز حزب النهضة في تونس وتكليف أمينه العام بتشكيل الحكومة، حان دور المغرب - حيث النظام العربي الوحيد الذي فيما يبدو أدرك التحول العميق الذي تمر به المنطقة – فالإصلاحات الدستورية التي قام بها العاهل المغربي نتج عنها انتخابات مبكرة وبرلمان جديد بصلاحيات جديدة، أفرزت هذه الانتخابات بدورها أغلبية إسلامية لحزب العدالة والتنمية، ليُكلَّف رئيسه بتشكيل الحكومة الجديدة. وفي نفس السياق تشير نتائج المرحلة الأولى من الإنتخابات المصرية إلى نفس الخيار الشعبي وربما بأغلبية غير متوقعة. لأول وهلة يمكننا التسليم بأننا إزاء ( حقبة إسلامية ) ستغير صيرورة التاريخ العربي والإسلامي المتعثر منذ قرنين أو أكثر، بل ذهب بعض العاطفيين من الشباب الإسلامي إلى القول أننا على أعتاب خلافة إسلامية طال انتظارها... الخ. أعتقد أن المشهد العام – بشيء من التأمل - يطرح تساؤلات حائرة ومخاوف مشروعة أكثر من الأماني الممكنة والأحلام البريئة !! فالإسلاميون – وبالتحديد حركة الإخوان – فوجئوا كغيرهم بتحول تاريخي ، وانتقلوا من سنوات المحنة العجاف إلى مرحلة ( تمكين ) لم يتصورها ممكنة في ظل الأنظمة الحالية، ولم تشغلهم كثيراً الإجابة على تساؤلاتها مسبقاً باعتبارها ترفاً فكرياً ، وتنظيراً لا يحتاجه الواقع( أي واقع المحنة )، فأصبحت من المؤجلات ومن المسكوت عنه في الفكر الإسلامي ما أوجد ثغرات ومساحات خالية في المشروع الحضاري الذي من المفترض أن هذه الحركة الكبرى تحمله للأمة والعالم. ومع ضغوط العولمة القاسية والرغبة في مواكبة العصر وغياب الاجتهاد الفكري تسللت مفردات ورؤى المشروع الليبرالي الرأسمالي الغربي لتملأ وإن بشكل مؤقت فجوات في مشروع إسلامي ( لم يكتمل بعد) يختلف عنها بل ويناقضها. يتسلم الإسلاميون – تحديداً حركة الإخوان المسلمين مرة أخرى – تركة ثقيلة من أوضاع إقتصادية واجتماعية متدهورة ، قادرة على استيعاب الحركة تماماً في حل وإدارة شأنها اليومي دون أن تترك لها متنفساً للتأمل والتفكير والمراجعة؛ فالأحزاب الإسلامية التي أصبحت في السلطة أصبحت رهينة الرضى الشعبي عليها والذي لا يعرف غير هذه الموازين المرتبطة بحياته اليومية لتقييم نجاح حكومة من فشلها بغض النظر عن الرؤية الحضارية والقيمية التي تحملها وتسعى لتحقيقها، ولا يُتوقع في ظل لحظة ثورية تحمل مشكلات متراكمة ومطالب لا تهدأ إلا أن تنشغل أي حكومة بالشأن اليومي للمواطن – وهذا حقه بالطبع – وأن تجعله يتحقق من التغيير بصورة ملموسة فيما يتصل به بصورة مباشرة ( الأجور والرعاية الصحية وفرص العمل ....الخ ). يمكننا إذن رؤية المشهد – مشهد الصعود الإسلامي – من هذه الزاوية : ثورات شعبية طالبت بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ثم منحت الإسلاميين ثقتها كبديل عن أنظمة استبدادية فاسدة، في الوقت الذي لا يملك الإسلاميون بديلاً عن مفردات الحضارة الغربية سواءاً على مستولى الآليات " الديمقراطية"، ( الأحزاب والانتخابات....الخ ) أو على المستوى النظري ( دور الدولة /المجتمع /الأمة ، ماهية الإقتصاد الإسلامي ، الثقافة والعولمة ....الخ). خطورة خوض التجربة مع وجود هذه الثغرات والمناطق الفارغة يمكن تلخيصها في الآتي : أولاً: في حالة نجاح هذه الأحزاب وقدرتها على مواجهة احتياجات شعوبنا الثائرة، فإنه ببساطة تكرار للنموذج التركي المُلهم، لكنه لا يعدو كونه نجاحاً في ( إدارة مؤسسات الدولة ) دون تقديم بديل ( إسلامي ) حقيقي يختلف عن النظام الرأسمالي المعولم في شيء، أي أنه لن يختلف عن نجاح الحكومة التايوانية مثلاً أو البرازيلية !!- مع تمايز السلوك الأخلاق والديني على المستوى الفردي / الخاص بطبيعة الحال؛ فمازلنا ندور مع الاقتصاد العالمي القائم على الربا ومازلنا في فلك اقتصاد السوق وآلياته ومخرجاته ( الشركات العملاقة ، والثقافة الاستهلاكية ، وأنماط الانتاج والتسويق القائمة على الربح والمنفعة اللاقيمية) ، والأخطر من ذلك مازلنا نتعرض لضغوط العولمة الثقافية القاسية ونخضع لاستمرار حالة الفراغ الحضاري الذي لابد أن يملأه شيء ما. ثانياً: الرغبة في ( مواكبة العصر ) و ( التجديد) إذا لم تنطلق من أرضية صُلبة لمشروع حضاري متناسق وكلي ، لن تنتج سوى أنماطاً مشوهة من ( التحديث الإسلامي ) على مستوى الممارسة تحديداً بعيدا عن الجدل المستمر حول النظرية(1). وأشير هنا لمثال بسيط لكنه معبر تماماً، فالنشيد الإسلامي الذي بدأه حسن البنا منطلقاً من الغناء الصوفي التراثي تحول في العقد الأخير إلى ( أغنية إسلامية ) تستلهم موسيقى الأغنيات الشبابية العربية، بل والغربية أيضاً، والحجاب الذي ارتبط بالصحوة الإسلامية وكان يباع في ساحات المساجد في السبعينات أصبح خاضعاً لموضة بيوت الأزياء التي يهيمن عليها معايير وأنماط غربية في مجملها، أما الخطاب الديني فقد تحول مع الدعاة الجدد – بدعوى التجديد – إلى تقديم صورة إسلامية للمبشر التليفزيوني الأمريكي الذي يعرض" خطاب ديني يحمل قيم تحقيق الذات على النمط الليبرالي الجديد: الطموح، والثروة، والنجاح، والفاعلية "، أي في الوقت الذي نسعى فيه لتقديم خطاب تجديدي ( يواجه ) الحضارة الليبرالية وقيمها " لم نشهد صعود للنزعة الإسلامية الإنسانية بقدر ما نرى إعادة تسويق إسلامية لليبرالية الإقتصادية ! "(2). ويمكننا هنا الإشارة لفشل حكومة الإنقاذ في السودان التي قفزت إلى السلطة خالية اليدين من أي تصورات فوجدت نفسها عاجزة عن تقديم رؤية للإعلام فتركته لنفس العقل الليبرالي العلماني كي يدير إعلام النظام الإسلامي(3). قس على الأمثلة السابقة ملفات أكثر خطورة كالتعليم والإقتصاد والعلاقات الدولية ...الخ. ثالثاً: نتج عن حالة الفراغ الحضاري والفجوات الفكرية والخلل التنظيري الشامل ، أن تبنت الأحزاب الإسلامية في برامجها رؤية ليست نابعة بالضرورة من مشروعها الحضاري بقدر ما هي تسليم بالأمر الواقع ، فالمتابع لخطاب الحركات الإسلامية يجدها تنادي ب ( الديمقراطية ) و( الحريات الفردية) و ( اقتصاد السوق ) .... صحيح أنها تضع لذلك ضوابط ما – أخلاقية أو إجرائية – لكنها تُنتج في النهاية مشروعاً للدولة لا يختلف في جوهره عن مشروع الديمقراطية الليبرالية ، يتماهى معه في نفس منظومة المصطلحات ويعجز عن تحريرها من قيم الحضارة الغربية لأنه لا يملك – من ناحية الطرح –بديلاً متناسقاً يمكن طرحه كمشروع حضاري نابع من تاريخ الأمة ومعبر عن خصوصيتها. من الملفت هنا تصريح لأحد أبرز رجال العمال المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين يقرر فيه أن برنامج حزب الحرية والعدالة الاقتصادي هو نفس برنامج الحزب الوطني المنحل لكن دون أوجه الفساد التي ارتبطت به. من هنا يمكننا تفهم الحكم القاسي – قد يكون مبالغاً- الذي يذهب إلى أنه ( انتهت حقبة الهوس بالهوية بالنسبة للإسلام السياسي وجاء عصر التمفصل – من التفصيل – على وقائع العولمة وإعادة التكوين من خلال السوق والنمط الاستهلاكي ).(4) فإذا وضعنا ذلك في سياق الربيع العربي الذي هتف شبابه بالحرية والديمقراطية كآليات ارتبطت في أذهانهم بواقع المجتمع الغربي، بالإضافةإلى تبني الأحزاب على اختلاف أيديولوجياتها لنفس الخيارات فقد يبدو وكأننا نتجه إلى نهاية التاريخ على النمط الفوكويامي ( نسبة إلى فرانسيس فوكوياما(5) ) أكثر من اتجاهنا لدولة الخلافة الراشدة ، أو حتى نموذج حكم إسلامي حقيقي!! بين استحقاقات الحاضر و أمانة المستقبل لم تعد حركة الإخوان – بفروعها في مصر وتونس والمغرب – وغيرها في المستقبل القريب – قادرة على تجاهل الشأن اليومي للمواطن الذي انتخب أحزابها، ولم يعد مطلوباً من الأحزاب المنتخبة تنظيراً فكرياً لأنه لن يُطعم الجائع ولن يوفر فرص العمل للعاطل، مطلوب من هذه الأحزاب إذن القبول بقواعد اللعبة التي اختارتها بإرادتها – أو التي فرضت عليه – وأن تبذل طاقتها في إنجاح تجربة ( إدارة جهاز الدولة ) لينعكس ذلك على حياة المواطن اليومية فتحتفظ للمشروع الإسلامي برصيده الشعبي والجماهيري الذي يؤهله للإستمرار في تجربة الحكم. هل نحتاج للإستمرار في هذه التجربة المجهدة ؟؟ لماذا ؟؟ هنا يأتي دور ( الجماعة ) وليس دور( أحزابها )... فالمشروع الحضاري يحتاج من الجهد الفكري والبحثي ، ومن الوقت ما لا يملكه حزب يخوض غمار الحياة العامة والشأن اليومي و سيف الصندوق الانتخابي مسلط على رقبته. من الضروري هنا ألا يتم استيعاب طاقات جماعة الإخوان المسلمين ( في مصر وخارجها ) في هم إدارة الدولة، لأن لها مهمة حضارية أخطر من ذلك ترتبط ببناء نموذج إسلامي حقيقي قادر على مواجهة المشروع الغربي الليبرالبي، وقادر على طرح البديل الإسلامي الأصيل النابع من فلسفة الإسلام في الإجتماع (وليس البديل الليبرالي المزوق بخطاب أخلاقي لا ينتمي له بالأساس ). يصبح هنا الفصل بين إدارة العمل الحزبي وقيام الجماعة بالمهمة الأساسية المنوطة بها ضرورة تمليها الحاجة للمشروع الحضاري نفسه وليس مجرد مطلب سياسي يمكن تجاهله أوالالتفاف عليه، كما أن خوض تجربة الحكم ضرورة لاستكمال هذا المشروع نظراً لما أعتبره طبيعة دينامية تفاعلية بين الطرح النظري المبدئي وبين تعقيدات الواقع ومتطلباته التي ستطرح تحديات جديدة تستثير العقل مرة وأخرى حتى يمكننا الوصول لصياغة متماسكة مقنعة، من هنا يستمد المنهج الإسلامي " واقعيته " بتعبير الشهيد سيد قطب. كما نحتاج لتكامل الجهود وعدم حصر هذه المهمة في فضاء الجماعة المحدود مقارنة بالفضاء الإسلامي الرحب، وجماعة الإخوان لديها من المؤهلات ما يجعلها قادرة على قيادة هذه الجهود الإَسلامية... أو هذا ما نتمناه. الهوامش: (1) حسام تمام: فشل الإسلام السياسي لكن الأسلمة مستمرة. (2) راجع الدراسات التي أعدها المرحوم حسام تمام بالتعاون مع د.باتريك هاني: - نبذة قصيرة عن تاريخ الأغنية الإسلامية (سابقا) فى مصر - اسلام البرجوازية المصرية. بالاضافة لبحث الأخير : الإقتصاد السياسي للإستهلاكية الإسلامية (3) مراجعات الحركة الإسلامية في السودان ، كتاب موقع الإسلاميون : يقول فيه د. قطبي المهدي – مستشار الرئيس البشير ومدير المخابرات السابق القيادي بالحركة الإسلامية بالسودان - : " ولم تدرك الحركة أن وصولها للسلطة عن طريق الانقلاب قد اختصر برنامجها الذي اعتمدته سلفاً في تغيير المجتمع حتى تصبح الحكومة تعبيراً تلقائياً عن واقع إسلامي راسخ في كافة مجالاته الروحية و الثقافية والحياتية وفي كل طبقاته وفصائله.. اليوم نجد السينما والتلفاز والمسرح والمجلات – وهي وسائل تحتاج لأعمال إبداعية من مسرح ورواية وشعر وفنون مختلفة تغذيها باستمرار لتصل لعقول ووجدان الجماهير – لم تنجح في تقديم القيم الإسلامية في قوالب جمالية يستوعبها الجمهور ولذلك ظهرت أجهزة الإعلام التي سيطرت عليها الحركة بعد ثورة الإنقاذ تقدم الغث من المادة التي كانت تُقَدم قبل الثورة لعدم وجود أعمال إبداعية إسلامية وظل الإسلاميون مجرد موظفين في إدارة هذه الأجهزة " !! (4) حسام تمام/باتريك هاني : إسلام البرجوازية المصرية (5) فرانسيس فوكوياما : نهاية التاريخ والإنسان الأخير حاول فرانسيس فوكوياما في هذا الكتاب البرهنة على أن الديمقراطية الليبرالية نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ ( من حيث كونه عملية متلاحمة متطورة وليس من ناحية كونه أحداث بالطبع )، فكافة الدول التي تمارس تحديثاً اقتصادياً لابد – حسب فوكوياما – أن يزداد باطراد التشابه فيما بينها ؛ إذ يتعين عليها التوحد قومياً على أسا من الدولة المركزية والتوسع في تأسيس المدن والاستعاضة عن الأشكال التقليدية للتنظيم الاجتماعي ( كالقبيلة والطائفة والعائلة ) بأشكال يقرها منطق الإقتصاد. ومع اقتراب البشرية من نهاية الأفية الثالثة ( كتب هذا البحث في تسعينيات القرن الماضي ) نتبين أن الأزمة المزدوجة في الشمولية والتخطيط المركزي الإشتراكي لم تترك غير متنافس واحد واحد في حلبة الصراع باعتباره الأيديولوجيا التي يمكن أن يقتنع العالم كله بصلاحيتها : وهي الديمقراطية الليبرالية ومبدأ الحرية وسيادة الشعب..... وبالرغم من أن الإسلام يشكل أيديولوجيا متسقة ومتماسكة، وأنه أبدى قوة في صحوته الحالية ،فإنه لايملك – والحديث مازال لفوكوياما – جاذبية خارج المناطق التي كانت في الأصل إسلامية الحضارة... فليس بوسع المسلمين تحدي اليمقراطية الليبرالية في أرضها على المستوى الفكري ، بل إنه يبدوا أن العالم الإسلامي أشد عرضة للتأثر بالأفكار الليبرالية على المدى الطويل حيث اجتذبت إلى نفسها أنصاراً عديدين أقوياء من بين المسلمين. ( راجع ص 8/9/11/54/56/57 على سبيل المثال ).