د.مازن النجار \n\n لا يزال وباء أنفلونزا 1918 هو الأسوأ تاريخياً، ولا يزال يشغل اهتمام العلماء الذين تفزعهم احتمالات اندلاع جديد لوباء أنفلونزا من هذا القياس. قبل أيام قدمت دراسة طبية أميركية جديدة الدليل على أن موجة الأنفلونزا المبكرة التي تفشت في ربيع 1918، ربما حصّنت المرضى ضد موجة وبائية ثانية أشد خبثاً.\nيشير الدليل الجديد حول ذلك الوباء الذي انتشر بأنحاء العالم في 1918-1919 إلى أن الإصابة بالمرض مبكراً (في بداية الوباء) وقى أناساً كثيرين من الإصابة بالموجة الثانية القاتلة. فجنود أميركيون وبريطانبون ومدنيون بريطانيون، أصيبوا بالموجة الأولى الخفيفة من وباء الأنفلونزا أوائل 1918، اتضح أنهم كانوا أكثر حصانة من غيرهم في مواجهة الآثار الإكلينيكية المستجدّة لسلالة أنفلونزا أخرى أشد فتكاً، انتشرت لاحقاً ذلك العام.\nأجرى الدراسة المؤرخ الطبي جون باري، وسيسل فيبو الباحث بالمركز الدولي لدراسات العلوم الصحية المتقدمة (التابع لمعاهد الصحة القومية)، ولون سايمونسُن بجامعة جورج واشنطن. ونشرت حصيلتها بعدد هذا الشهر (نوفمبر/تشرين الثاني) من دورية \"مجلة الأمراض المعدية\".\nيشير الباحثون إلى أنه إذا ثبت توثيق الموجة الأولى الخفيفة للوباء، فينبغي تقدير فوائد الوقاية منها، قبيل البدء بتنفبذ التدخلات الصحية العامة الرامية للحد من انتشاره. \nسبل التعاطي مع الوباء\nيعتقد بعض خبراء الأوبئة أنه سيكون لهذه النتائج آثار على سبل التعاطي مع أوبئة المستقبل. وإذا كان لمثل وباء 1918 أن يتكرر، فإن الانتشار المبكر لفيروسات مرض الأنفلونزا الأقل وبائية قد يؤمّن مستوى معيّن من الحصانة للسكان، مما يحد من اكتمال هجمة الموجة الثانية.\nيقول أحد الباحثين أنه بالإضافة للبيانات والمعطيات التاريخية المستقاة من سجلات الدنمرك ومدينة نيويورك حول إصابات وباء 1918، تقدم هذه الدراسة منظوراً مختلفاً لعملية تكيّف فيروسات وباء الأنفلونزا الجديدة مع البشر وتطور شدة فتكها. نقّب الباحثون عن المعلومات والبيانات الطبية في قواعد الجيش الأميركي والأسطول البريطاني وعدة بلدات بريطانية مدنية، مطبقين نماذج رياضية حديثة لدراسة الوباء.\nوقد وجد العلماء أنه في ربيع 1918، انتشرت الأنفلونزا بمستويات مختلفة من الشدة بأنحاء الولاياتالمتحدة، ولم يتم اعتبارها دائماً في مناطق انتشارها كوباء. لكن بحلول الخريف، ارتفعت مستويات الإصابة بالمرض بين الجنود الذين لم يصابوا بالأنفلونزا سابقاً 3.4 مرات، كما ارتفعت مستويات الوفاة بينهم خمس مرات.\nبيد أن التفاوت في مستويات الإصابة والوفيات لم يكن كبيراً بهذه الدرجة بين البحارة والمدنيين البريطانيين الذين تمت دراسة سجلاتهم.\nتفاوت حدة العدوى الثانية\nفبالنسبة للأشخاص الذين أصيبوا في الموجة الأولى، انخفضت مخاطر إصابتهم في الموجة الثانية بين 35 و94 بالمائة، وهي تقريباً نفس الحماية المتاحة بواسطة اللقاحات الحديثة، وتتفاوت بين 70 و90 بالمائة. وانخفضت مخاطر الوفاة بين 56 و89 بالمائة.\nبينما كانت هناك تغايرات (اختلافات) في مجمل حالات الأنفلونزا بين 37 قاعدة من قواعد الجيش الأميركي في ربيع 1918، وجد الباحثون أن الجنود المرضى في الربيع شهدوا مستويات أقل للإصابة بالمرض والوفاة خلال تفشي الوباء الأكثر فتكاً في الخريف.\nفي قاعدة نقل إليها فوج من ولاية هاوائي حيث تعرض جنوده لموجة أنفلونزا الربيع، كانت نسبة إصابات الخريف هناك 6.6 بالمائة فقط مقارنة ب48.5 بالمائة بين جنود فوج جاء من ألاسكا، حيث لم يتعرضوا للإصابة.\nتشير الدراسة إلى سببين محتملين للاختلاف بمستويات الإصابة وشدة الفتك بين الموجتين الأوليين: فيروس ضعيف نسبياً تحوّر إلى آخر أقوى، أو جرثومة في الجهاز التنفسي لدى مرضى أنفلونزا الخريف، جعلت الأخيرة أشد فتكاً. يُذكر أن وباء أنفلونزا 1918-1919، الذي قتل أكثر من 50 مليون شخصاً بمختلف أنحاء العالم، كان أشد فتكاً بشكل خاص بين الراشدين الشباب كالجنود.\nعلاقة شدة الوباء بالاستجابة المناعية\nوكانت دراسة طبية سابقة قد وجدت قبل عامين (أكتوبر/تشرين الثاني 2006) أن سلالة فيروس الأنفلونزا المسماة H1N1، والتي سببت وباء أنفلونزا 1918، تسبب أيضا استجابة حادة (استفزازاً) لجهاز المناعة، وهذا ما يجعل الفيروس شديد الفتك بمضيفه من حيوان أو إنسان. تتصدى الدراسة لقناعة تقليدية حول أنفلونزا 1918، تقول بأن التهاباً ثانوياً من فيروس آخر ساعد على جعل ذلك الوباء أحد أشد الأوبئة فتكاً في الحقبة المعاصرة.\nدرس الباحثون استجابة خلايا الرئة في الفئران المصابة بالفيروس. وأجروا تحليلاً جينومياً وظيفياً لتلك الخلايا، لمراقبة الجينات التي تنشط خلال مرحلة الإصابة. وقد وجدوا أن جينات عديدة ذات صلة بالاستجابات المناعية قد نشطت، وكذلك جينات أخرى متصلة بموت الخلايا المبرمج، وهو ما يحدث عندما يقوم الجسم بقتل الخلايا المريضة للحد من الإصابة (الالتهاب).\nالدكتور جون كاش، أستاذ أبحاث الميكروبيولوجيا بجامعة واشنطن ومؤلف الدراسة، يفسر ما يحدث بأن الاستجابة الالتهابية للمصاب بالفيروس قد تم تنشيطها عالياً بواسطة الفيروس، وهذه الاستجابة تجعل الفيروس أكثر إيذاء للمصاب. ويبدو أن جهاز المناعة لدى المصاب يبالغ في الاستجابة أو رد الفعل، مما يؤدي لقتل خلايا كثيرة، وهذا هو المساهم الرئيسي في جعل الفيروس أكثر قدرة على الإمراض.\nوكان وباء أنفلونزا 1918، الذي يعرف أيضا بالأنفلونزا الأسبانية، قد انتشر حول العالم في عامي 1918 و1919، وقتل أكثر من 50 مليون إنساناً على مستوى العالم. وبخلاف الأنفلونزا الموسمية التي تستهدف عادة الأطفال وكبار السن وأصحاب المناعة الضعيفة بشكل خاص، فقد أصابت أنفلونزا 1918 الراشدين الأحدث سنا وأشخاص بدون مشكلات في جهاز المناعة.\nجهاز المناعة مفتاح العلاج\nوقد احتار الباحثون المعاصرون طويلا في تفسير شدة فتك تلك السلالة من فيروس الأنفلونزا، وقدرتها على إصابة وإيذاء ملايين البشر خارج نطاق السكان الأشد تأثرا بالأنفلونزا في المعتاد.\nإحدى النظريات التي طرحها العلماء لتفسير وباء أنفلونزا 1918 كانت تقول بحدوث التهاب ثانوي في أعقاب الإصابة بفيروس الإنفلونزا الرئيس مباشرة، فيصيب الناس في وقت تكون فيه أجهزة المناعة قد ضعفت بالفعل بسبب الأنفلونزا. لكن هذه الدراسة تشير إلى خصوصية ما لسلالة فيروس أنفلونزا 1918، بحيث جعلته شديد الفتك بشكل خاص.\nتشير هذه النتائج بالنسبة للدكتور كاش وزملائه إلى مسار جديد باتجاه مكافحة الأنفلونزا الوبائية. فإذا كانت الاستجابة الحادة لجهاز مناعة المصاب هي المسؤولة جزئياً عن التأثيرات القوية لسلالة فيروس الأنفلونزا، سيعمد الباحثون إذن إلى معالجة الفيروس بالتركيز على الجهاز المناعي للمصاب.\nيرى الدكتور مايكل كاتز، أستاذ الميكروبيولوجيا وقائد فريق البحث، أن جهد الباحثين سينصرف إلى البحث عن أهداف لدى المصاب (لتركيز العلاج عليها) بدلا من الاهتمام بالفيروس فقط. ثم يتم توجيه ضربة مزدوجة تؤثر على الالتهاب الفيروسي، ولكنها \"تخفض\" حدة استجابة الجهاز المناعي للمصاب.