وما تلا ذلك من اتهامات روسية ل\"الناتو\" بالتدخل في شؤون جمهورياتها السابقة في القوقاز وآسيا الوسطى وبحر البلطيق، فإنها تنظر أيضاً بعين القلق والارتياب مما يحصل أو قد يحصل في أفغانستان، وتحديداً احتمالات أن تنفرط الأمور في هذا البلد، فتقوى شوكة حركة \"طالبان\" وتنظيم \"القاعدة\". ويمكن القول إن هذا يفسر مسارعة موسكو إلى إجراء مناورات عسكرية مع بلد مهم يحد أفغانستان من الشمال هو كازخستان، في وقت حرج يحتاج فيه الروس إلى كامل عديدهم في القوقاز وحوض البحر الأسود، بل يمكن أن يفسر لنا هذا أيضاً سلسلة من الأحداث والتصريحات على مدى الأشهر الماضية مثل: \r\n \r\n - زيارة وزير الدفاع الروسي \"فالنتين فارينيكوف\" إلى كابول، ومحادثاته مع نظيره الأفغاني الجنرال عبدالكريم فرداق ورئيس أركان القوات الأفغانية الجنرال بسم الله خان، واتفاق الطرفين على إحياء التعاون المشترك في مجال الدفاع الجوي الذي توقف منذ انسحاب السوفييت من أفغانستان في عام 1989. \r\n \r\n الروس يعون جيداً أن أي نصر يحققه \"الطالبانيون\" في أفغانستان ضد الغرب وحكومة كرزاي الحليفة، لن يضر بهذا الغرب وحده، وإنما ستمتد أضراره لتشمل روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى. \r\n \r\n \r\n - التصريح الذي أدلى به الجنرال فارينيكوف الذي كان في الفترة ما بين عامي 1984 و 1989 قائداً للعمليات العسكرية السوفييتية ضد المجاهدين، أثناء زيارته لنصب تذكاري يخلد القائد أحمد شاه مسعود في وادي \"بانشير\" بأن بلاده قد رمت أحداث الماضي الأليم خلف ظهرها، وترنو بشوق للتعاون مع الأفغان. \r\n \r\n - الزيارة التي قام بها إلى موسكو في 25 مايو الماضي وزير الخارجية الأفغاني \"رانجين دادفار سبانتا\" وتصريحاته التي تقاطعت مع تصريحات وزير الدفاع الروسي السابقة لجهة تجاوز أحداث الماضي والنظر إلى المستقبل بثقة والبدء فوراً بتوسعة مجالات التعاون المشترك لتشمل الاستثمار والتصدي للإرهاب وتهريب المخدرات. على أن أهم ما استرعى انتباه المراقبين أثناء الزيارة هو دعوة الوزير الضيف نظيره \"سيرجي لافروف\" للمشاركة في أعمال المؤتمر الدولي حول أفغانستان في باريس في يونيو الماضي. وقد ردت موسكو على الأريحية الأفغانية بأحسن منها، وذلك من خلال توجيه دعوة للرئيس الأفغاني حامد كرزاي لحضور قمة منتدى شنغهاي للتعاون الاقتصادي، وهي الدعوة التي لباها الأخير وأتاحت له الالتقاء بالزعيم الروسي \"فلاديمير بوتين\"، بل أتاحت لكابول فتح قنوات التعاون الاقتصادي مع المنظومة. \r\n \r\n - انعقاد أعمال اللجنة الروسية لدعم ومساندة الاستثمار في أفغانستان في 22 أكتوبر 2007 في كابول، علماً بأن الأفغان يبنون آمالاً عريضة على هذه اللجنة لجهة جذب فوائض الأموال الروسية المتراكمة من بيع النفط والغاز. \r\n \r\n وعودة إلى المشهد الراهن وما يحيط به من مخاوف وقلق، فإنه في حقيقة الأمر يذكرنا بما حدث في عام 1996 حينما نجح \"الطالبانيون\" في إقصاء المجاهدين من السلطة والحلول مكانهم ببرنامج سياسي متخلف وسياسات رعناء. وقتها انتشرت المخاوف لدى القادة الروس، بمن فيهم الجنرال \"ألكسندر ليبد\"، الذي كان ينظر إليه وقتذاك كخليفة قوي للرئيس \"بوريس يلتسن \r\n \r\n وبما أن \"ليبد\" خرج من المنافسة صفر اليدين لصالح بوتين المدرك جيداً– بفضل منصبه السابق كرئيس للاستخبارات السوفييتية– لتعقيدات الملف الأفغاني، فإن الأخير التزم الصمت التام في عام 2001 حينما كانت القوات الأميركية تدك أفغانستان وتسحق نظام \"طالبان\". بل التزم الرجل الصمت أيضاً حينما راحت واشنطن لاحقاً تمد أرجلها نحو جمهوريات آسيا الوسطى في صورة قواعد عسكرية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. \r\n \r\n ومما قيل في هذا السياق أن بوتين لم يصمت جبناً أو إرضاء للغرب أو غزلاً لإدارة جورج دبليو بوش، وإنما فعل ذلك من منطلق قناعته بأن بامكان النمر الأميركي الجريح من جراء هجمات 11 سبتمبر 2001 أن يلعب دوراً مجانيا في إقامة درع حصينة حول بقايا \"طالبان\" و\"القاعدة\" وأنصارهما من المتشددين، وبما يلغي أو يخفف خطرهم على روسيا دون أن تتكلف موسكو أية أعباء. \r\n \r\n ومنذ ذلك الحين شهدت علاقات الروس بالغرب الشد والجذب، بل خيل للمحللين أحياناً أن الحرب الباردة لم تنته أو أنها عادت من جديد. على أن ما لم يتغير وظل ثابتاً على مدى سنوات منذ انهيار الاتحاد السوفييتي هو مخاوف موسكو من المتشددين الإسلاميين. تلك المخاوف التي لم تنكمش، بل ظلت في الحقيقة تتنامى بصورة طردية مع تنامي أعداد المسلمين الروس وأنشطتهم في الشيشان وداغستان وتتارستان وغيرها. \r\n \r\n ويبدو أن الخوف من احتمال اتساع أو انتشار ظاهرة الشيشنة (نسبة إلى الشيشان) هو ما دعا الرئيس بوتين الى الإقدام على خطوة مثيرة للجدل هي التودد للشيشانيين عبر منحهم استقلالاً رمزياً عن روسيا الاتحادية، وهو ما تجسد في تعيين إمامهم الديني أحمد قادروف كرئيس للإقليم المطالب بالانفصال. وهذا، كما هو معروف، ساهم في توبة عدد معتبر ممن سموا بالمجاهدين الشيشان، مثلما ساهم في إلقائهم لأسلحتهم وإنهائهم لروابطهم مع التنظيمات الجهادية الأجنبية، وإن لم يمح أو يقضي تماماً على المشاعر الوطنية والجهادية سواء داخل الشيشان أو في غيرها من جمهوريات الاتحاد الروسي المسلمة. فالذي حدث هو أن المسلمين الروس الذين تربوا في ظل اتحاد سوفييتي يرفع شعار \"يا عمال العالم اتحدوا\"، سرعان ما وجدوا في هذا الشعار فائدة، فباتوا يستخدمونه من بعد أسلمته إلى \"يا مسلمي العالم اتحدوا لخلق جبهة واحدة ضد أعداء الإسلام\". وتحت يافطة هذا الشعار، راح من سموا أنفسهم بالمجاهدين يقومون بالعمليات العسكرية ضد الجيش الروسي من الشيشان إلى شمال القوقاز وما خلفه. \r\n \r\n أما الجديد فهو أن الروس اكتشفوا مؤخراً وهم في وسط معاركهم الحربية مع القوات الجورجية جماعة جهادية جديدة لم يسمع عنها من قبل اسمها \"الجماعة البلغارية في بشكيريا\". والمعروف أن بشكيريا إقليم روسي ذو أغلبية مسلمة، لكنه لم يعرف عن سكانه التشدد أو الانخراط في الجهاد. والحال أن الروس يعون جيداً، حتى في ظل خصومتهم المتزايدة مع الغرب، أن أي نصر يحققه \"الطالبانيون\" وأنصارهم في أفغانستان ضد الغرب وحكومة كرزاي الحليفة، لن يضر بهذا الغرب وحده، وإنما ستمتد أضراره لتشمل روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى ذات الموارد الطبيعية الهائلة وربما الصين والهند، إضافة إلى تحويل مناطق الشرق الأوسط والخليج والبحر الأسود إلى بؤر للتوتر واللااستقرار بفضل ما يتصف به \"الطالبانيون\" وحلفائهم في تنظيم \"القاعدة\" من فكر أرعن وبرنامج إجرامي قائم على العنف واستحلال الدماء والأموال. \r\n \r\n وبسبب هذا الوعي الروسي من مخاطر بروز \"طالبان\" مجددا، أرسلت موسكو رسالة واضحة إلى الأميركيين مفادها أنها تفضل ألا يؤثر صدامها وخلافاتها معهم في القوقاز على تعاونها معهم في أفغانستان، مستدركة في الوقت نفسه أنها قد تلجأ إلى إغلاق الممر الروسي لنقل المساعدات إلى أفغانستان إذا ما شعرت بضغوط في شكل منح جورجيا أو أوكرانيا عضوية \"الناتو\" أو تسليح القوات الجورجية بأسلحة حديثة ومتطورة. \r\n \r\n بعض المراقبين يجزمون بأن موسكو لن تستطيع تنفيذ تهديداتها لسببين: الأول أنها بوقف تعاونها مع الغرب في أفغانستان، تكون كمن يمهد السبيل للمتشددين الإسلاميين للزحف نحو السلطة في كابول، وبالتالي خلق مكان ملائم للتدريب والتسليح والاختباء للمقاتلين الشيشان وغيرهم من الروس الانفصاليين. والثاني أنها بهذه الخطوة سوف تتسبب في انحسار ما يشبه التأييد المتزايد لها في أوساط النخب العلمانية في جمهوريات آسيا الوسطى، ممن باتت تراهن أكثر فأكثر على الروس لحمايتها من هوجة التشدد الديني، بعدما فشل الأميركان والغرب في ذلك. \r\n \r\n