أقول ذلك لأن تركيا بلد لم يُصنع كي يكون صالحاً للحياة في \"عالم بوش\". فمصطلحات الرئيس الأميركية التي تقسم العالم إلى ثنائيات:\"إما نحن أو هم\"، و\"الخير في مقابل الشر\"، و\"من ليس معنا فهو ضدنا\"، لا تصلح للتطبيق في أمة تتبنى مقولات ذات دلالات غاية في الدقة من مثل:\"مسلم ولكن غير إسلاموي\"، و\"متدين من حيث الثقافة ولكن علمانيا من حيث البنية والجوهر\"، و\"تركيا دولة تنتمي إلى الغرب والشرق في آن معاً\". \r\n \r\n ففي هذه الدولة- الجسر، العضو في \"الناتو\"، والتي تتبنى نمطاً من\"التعصب المعتدل\" الذي لم يجعل منها دولة أوروبية تماماً، تتوافر على الشروط المطلوبة للانضمام للاتحاد الأوروبي، يندلع في الوقت الراهن، صراع بين العلمانيين الفخورين من جانب والمسلمين الورعين من الجانب الآخر على رسم الخطوط الفاصلة بين الدولة والمسجد. \r\n \r\n الصراع على روح تركيا لن تخف وتيرته قريباً، لأنه صراع مفيد طالما ظلت تركيا ذاتها منفتحة. أما الغرب فهو مطالب ببذل قصارى جهده لحماية هذا الانفتاح. \r\n \r\n \r\n ويجب على الغرب ألا يفقد صبره، أو يتهاون في تأمل هذا الصراع، وأن يتذكر أن الأمر قد تطلب منه مرور مئات السنين، وحروباً لا حصر لها، وتضحيات بعشرات الألوف من البشر، قبل أن تتمكن الدولة والكنيسة فيه من إيجاد المبرر القانوني لانفصالهما، وأن يدرك أن الإسلام وهو الدين الأحدث ظهوراً بين الأديان السماوية الكبرى، يعاني من صعوبات جمة في إطار سعيه للاندماج مع الحداثة. \r\n \r\n وليس هناك مكان تظهر فيه تلك المسألة بشكل واضح، أفضل من تركيا المحافظة، التي انطلقت بأقصى سرعة نحو العلمانية المتطلعة غرباً، في عشرينيات القرن الماضي، تحت قيادة \"مصطفى كمال أتاتورك\"، والتي تخوض في الوقت الراهن صراعاً ضد تيار الإسلام السياسي المتنامي. \r\n \r\n وقد شهد الأسبوع الماضي الحلقة الأخيرة في هذا الصراع،عندما وجهت المحكمة العليا التركية توبيخاً لرئيس الوزراء \"رجب طيب أردوغان\" زعيم \"حزب العدالة والتنمية\" والمسلم الملتزم ذي الماضي الإسلاموي، في مسألة تحمل بعداً رمزياً كبيراً. \r\n \r\n فقد رأت تلك المحكمة، أن القانون الذي نجح \"أردوغان\" في تمريره في البرلمان التركي في شهر فبراير الماضي، والذي يسمح للنساء بارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات الحكومية، هو قانون يخالف مبادئ العلمانية التي ينص عليها الدستور. \r\n \r\n ووجهة نظري بشأن هذه المسألة تنقسم إلى شقين: الأول، هو أن النساء في سن التعليم الجامعي يجب أن يتمتعن بالحرية في ارتداء ما يردن وفقاً لمعتقداتهن الشخصية. ومن هذه الزاوية، فإنني أرى أن حكم المحكمة العليا غير مقبول. الثاني، أن المؤسسة العلمانية لتركيا الحديثة، كان لها دور أساسي في خلق المجتمع التركي المتسامح، ويجب ألا تقبل بالتخلي عن دورها هذا، من دون قتال، خصوصاً في البيئة الشرق أوسطية الحالية التي تندر فيها الديمقراطية، وتشتد فيها شوكة الإسلام. من هذه الزاوية، أرى أن حكم المحكمة المشار إليها، يمثل تحدياً صعباً وإنْ كان لا يخلو في الوقت ذاته من بعض الفوائد ل\"حزب العدالة والتنمية نفسه\"، لأنه سيدفعه حتماً إلى تحسين أوراق اعتماده الليبرالية. \r\n \r\n وقد تلزم الإشارة هنا إلى أن \"أردوجان\" وحزبه، يحظيان بشعبية ملحوظة في كل من واشنطن وأوروبا، وأن المؤسسة العسكرية- القضائية العلمانية في تركيا، لم تواجه منذ أيام \"أتاتورك\" ظرفاً عصيباً مثل الذي تواجهه اليوم. ففي تركيا اليوم، يتطلب الحصول على منصب من المناصب الكبرى في قطاعي التعليم، والصحة، وغيرهما من قطاعات الخدمة العامة، توافر مؤهلات إسلامية في المتقدم، يجب أن تحوز أولاً على رضاء \"حزب العدالة والتنمية\". \r\n \r\n يُضاف إلى ذلك أن هناك تغيرات دقيقة طالت الأعراف والتقاليد السائدة، ورافقت هذا التحول في النفوذ. وضمن هذا الإطار، فإن الحصول على وظيفة مناسبة أو زوج مناسب قد يتطلب توافر مظاهر جديدة من مظاهر التقوى، وهو ما يمكن لنا أن نراه بوضوح في الشوارع التركية. فالحجاب الذي يغطي رؤوس الفتيات التركيات في الوقت الراهن أصبح منتشراً على نطاق واسع، كما تنتشر أيضاً الإعلانات الموجهة إلى النساء داعية إياهن لإطالة الأكمام والتنانير مراعاة لمشاعر المسلمين المحافظين. ليس هذا فحسب بل إن هناك لباس بحر يطلق عليه اسم \"حشمه\" يغطي الجسم من الرأس إلى القدمين بدأ في الظهور على الشواطئ التركية. \r\n \r\n ليس قصدي من إيراد هذه الشواهد، القول بأن حكم الشريعة قادم لتركيا لا محالة، أو أن حزب \"العدالة والتنمية\" يضع إيران بؤرة تفكيره، أو يتطلع إليها كنموذج يحتذى. أنا لا أقول ذلك لأنني أعرف أن أعضاء هذا الحزب ليسوا فاشيين إسلاميين، كما أنني لا أقول أيضاً إن هذا الحزب بما يضعه من قيود متشددة، يقف على طرف نقيض مع الأمة التي صاغها أتاتورك. \r\n \r\n ومن المقرر أن تصدر المحكمة نفسها عما قريب، حكماً آخر يحظر على أردوغان، و70 عضواً آخرين من أعضاء الحزب، ممارسة السياسة بتهمة محاولة تفكيك العلمانية. وبالنسبة لحزب حصل على 47% من إجمالي الأصوات في انتخابات العام الماضي، فإن صدور مثل هذا الحكم سيكون، بلا ريب، بمثابة ضربة موجهة للديمقراطية. \r\n \r\n لذلك، أقول إن المحكمة التركية العليا يجب أن تمتنع عن إصدار مثل هذا الحكم، وإن كان ذلك لا يحول بيني وبين القول في ذات الوقت، إنني سعيد ببقاء مثل هذا التهديد قائماً أمام حزب \"العدالة والتنمية\". إن الصراع على روح تركيا لن تخف وتيرته قريباً، لأنه في رأيي، صراع مفيد طالما ظلت تركيا ذاتها منفتحة. أما الغرب فهو مطالب ببذل قصارى جهده من أجل حماية هذا الانفتاح- وهو ما قد يتضمن -من وقت لآخر- جرعة من \"الفاشية العلمانية\". \r\n \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"نيويورك تايمز\" \r\n \r\n \r\n