\r\n وانسجاماً مع تقاليدها في الدفاع عن العلمانية والتدخل لصالحها كلما عنَّ لها ذلك حذرت المؤسسة العسكرية التركية من انتخاب وزير الخارجية \"عبدالله جول\" رئيساً للبلاد، حيث تلت تلك التحذيرات مظاهرات حاشدة نظمها المدافعون عن العلمانية في مدينة اسطنبول. لكن \"جول\" بعد أن فشل للمرة الثانية في تأمين الأصوات البرلمانية الكافية لفوزه بمنصب الرئاسة قرر سحب ترشيحه يوم الأحد الماضي، دون أن يعني ذلك انتهاء المشكلة ما دامت الشخصية التي ستعوضه لن تنجو هي الأخرى من احتمال رفضها من قبل أعضاء البرلمان بعد الانتخابات التشريعية المزمع عقدها في 22 يوليو المقبل. \r\n والواقع أنه حتى في حال إجراء انتخابات برلمانية مبكرة فإن \"حزب العدالة والتنمية\" ذا الجذور الإسلامية يتمتع بشعبية كبيرة في أوساط الرأي العام، لاسيما لدى الأتراك الذين يعيشون في المناطق القروية. وبالطبع ستحظى تلك الانتخابات بمتابعة واهتمام واسعين من قبل جيران تركيا من الأوروبيين والعرب، بحيث من المتوقع أن تؤدي تلك الانتخابات، في حال أجريت دون مشاكل، إلى معالجة الانقسام الحالي في تركيا وقيادة البلاد على طريق الاعتدال، وإمكانية الانضمام في المستقبل إلى النادي الأوروبي الذي تتوق تركيا إلى الالتحاق به. ومع أن الغرب ينظر إلى الديمقراطية والعلمانية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، إلا أن الأمر ليس كذلك في الحالة التركية. فمنذ انهيار الإمبراطورية العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى استطاع \"كمال أتاتورك\" بإنجازاته العسكرية وإصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية العميقة أن يضع تركيا على طريق العلمانية والتحديث على الشاكلة الغربية. \r\n بيد أن القومية العلمانية التي أرسى أسسها \"كمال أتاتورك\" سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة التيارات الإسلامية المحافظة في المناطق القروية من البلاد، التي ظلت بعيدة عن النخبة الحديثة في المدن، معقل العلمانية في تركيا. ولابد من الإشارة هنا إلى أن القوات المسلحة التركية، وبخاصة كبار الضباط، تعتبر لاعباً مهماً، إن لم تكن اللاعب الأهم في الدراما الحالية لاختيار رئيس جديد لتركيا، ناهيك عن دور المؤسسة العسكرية في الأزمات السابقة التي شهدتها البلاد. فالأتراك يتذكرون أربعة انقلابات عسكرية عندما تدخل الجيش للإطاحة بسياسيين إسلاميين انتخبهم الشعب. وهكذا تم إعدام رئيس الوزراء \"عدنان منديريس\" مع اثنين من وزرائه في الانقلاب الدموي الأول الذي قام به الجيش ضد الحكومة المنتخبة عام 1960. كما أدت الضغوط الشديدة التي مارستها القوات المسلحة، على ما اعتبرتها حكومات مناوئة لتقاليد \"كمال أتاتورك\"، إلى إسقاط حكومات متعاقبة في عامي 1971 و1980. وفي عام 1997 أطاح الجيش أيضاً برئيس الوزراء \"نجم الدين أربكان\". \r\n وبالإضافة إلى تدخل الجيش في الحياة السياسية حرصت المؤسسة العسكرية أيضاً على تعزيز عضويتها في حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن تمتين علاقاتها العسكرية مع الولاياتالمتحدة في مجالات التدريب والتموين، وذلك بالرغم من معارضة الحكومة للسياسات الأميركية. ولعل أوضح مثال على ذلك رفض تركيا المشاركة في غزو العراق عام 2003، وتنديد الكونجرس الأميركي بغزو تركيا لقبرص عام 1974 وما أعقبه من قيام الولاياتالمتحدة بفرض حصار مؤقت على بيع الأسلحة إلى تركيا. وتبقى الملاحظة الأهم بالنسبة للجيش التركي هي اختلافه الواضح مع المؤسسات العسكرية الأخرى في المنطقة. فلم يُعرف عن القوات المسلحة التركية تشبثها بالسلطة حتى بعد الإطاحة بالحكومات المدنية، خلافاً للضباط اليونانيين الذي عندما سيطروا على السلطة وضعوا حداً للديمقراطية البرلمانية من 1967 إلى 1974 تحت مسميات كثيرة مثل \"اليونان لليونانيين المسيحيين\". أما الجيش التركي فكان على الدوام يتجنب الشعارات المعادية للديمقراطية ويصر على إبقاء الدين بمنأى عن السياسة. \r\n والاختلاف الآخر الذي يميز الجيش التركي عن غيره مثل الجيوش في الدول العربية هو عدم قدرة هذه الأخيرة على الدفاع لفترة طويلة عن العلمانية، وهو ما شهدناه لدى جمال عبدالناصر في مصر، أو حافظ الأسد في سوريا، حيث ظل الدين حاضراً بقوة دون أن تستطيع الإصلاحات العلمانية إزاحته. وفي أول رد فعل أوروبي على التصريحات التي أطلقها كبار الضباط الأتراك بشأن ترشيح \"عبدالله جول\" حذر المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي من أن تدخل الجيش قد يهدد الحظوظ التركية في الانضمام إلى الاتحاد. أما الولاياتالمتحدة فقد اكتفت بإصدار بيان على لسان وزارة الخارجية، أقل حدة مقارنة بنظيره الأوروبي، عن أفضلية خضوع الجيش للسيطرة المدنية. وفي الوقت الراهن يسعى رئيس الوزراء التركي \"رجب أردوجان طيب\" إلى جانب \"حزب العدالة والتنمية\" إلى الدفع بمقترح جديد لتعديل الدستور لانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب. \r\n ويظل السؤال الذي يطرحه العديد من المراقبين للشأن التركي هو كيف ستكون ردة فعل الجيش التركي في حال فوز \"حزب العدالة والتنمية\" في الانتخابات البرلمانية المقبلة وتمكنه من تأمين الأغلبية المريحة التي تتيح له انتخاب رئيس الدولة؟ إن الجواب على هذا السؤال سيحدد ما إذا كانت تركيا قد نضجت ديمقراطياً وفقاً لتقاليد \"أتاتورك\" الحقيقية، أم أنها ما زالت قاصرة في وعيها الديمقراطي. \r\n \r\n جون كولي \r\n مراسل \"كريستيان ساينس مونيتور\" في اليونان \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"كريستيان ساينس مونيتور\" \r\n \r\n