\r\n قادتني للاقتناع بأنه لم يضفْ شيئاً يذكر إلى ما كان عليه الوضع من قبل. والسؤال الأول الذي تتوجب إثارته هو: لماذا لم يترك بلير إعلاناً كهذا لوزير دفاعه \"ديس براوني\" الذي أخطأ اختياره ولا يزال عاجزاً عن تحقيق أي قدر من التفاعل والانسجام مع جنوده في العراق؟ في اعتقادي الشخصي أن هناك سببين يفسران هذا. أولهما أن مجلس العموم قد أجرى واحداً من أندر وأسخن حواراته عن العراق، قبل مدة وجيزة من صدور الإعلان الأخير، وفيما يبدو أن بلير لم يتمكن من حضور تلك الجلسة. أما السبب الثاني، فيتلخص في قلق بلير الشخصي على سيرته السياسية التي ستخلف مغادرته لمنصبه في موسم الصيف المقبل. ولذلك فما أشد اهتمامه بأن يترك وراءه، ولو بصيصاً من الضوء في آخر النفق المظلم لسياساته العراقية. \r\n وبموجب القرار المذكور، فسيجري خفض العدد الكلي للقوات البريطانية المرابطة في جنوبي العراق، من 7.100 جندي، إلى 5.500 جندي. ومن وجهة النظر البريطانية العامة، فهذا الخفض سيكون أقل مما كان متوقعاً بكثير. وسيكون ذلك الانسحاب بمثابة إشارة إنذار لوزارة الدفاع البريطانية، بتكثيف وجودها العسكري في أفغانستان، مع العلم بأنها تدرك سلفاً صغر حجم جيشها، واستنزافه في عدة مهام وجبهات منتشرة حول العالم، إضافة إلى ما يعانيه من نقص في المعدات الحربية، خاصة الطائرات المروحية المقاتلة. ولهذه الأسباب مجتمعة، فقد كانت وزارة الدفاع تأمل في عودة 3 آلاف جندي من العراق، بحلول الصيف المقبل. \r\n وفي شهر نوفمبر المنصرم، وبعد ساعات فحسب من إقالة وزير الدفاع الأميركي السابق سيئ الذكر، دونالد رامسفيلد، كان المسؤولون الأميركيون والبريطانيون والعراقيون، قد تحدثوا بوضوح وصراحة فيما بينهم، عن ضرورة تسريع إجراءات تسليم المسؤولية الأمنية للقوات العراقية. وكان هناك حديث عن توفر فرصة ذهبية مواتية الآن، لمزيد من المرونة ولأن يشرع التحالف الدولي في تبني استراتيجية جديدة له في العراق. ومن المعروف أن جنوبي العراق قد ظل بقعة مغايرة جداً لما هو عليه الحال في المثلث السُّني بما فيه بغداد. \r\n وفي مخاطبته لأعضاء مجلس العموم، قال بلير إن ذلك الانسحاب الجزئي المحدود للقوات، قد أضحى ممكناً بفضل عملية \"سندباد\" التي تصدت فيها القوات البريطانية والعراقية معاً، لمهمة إخماد بؤر التمرد الأكثر سخونة في الجنوب، إضافة إلى دعمها لجهود إعادة الإعمار في البصرة. غير أن المراقبين والمعلقين لاحظوا أن بلير كان أقرب إلى التحفظ والحذر، منه إلى الشعور بالنصر والتفوق أثناء حديثه ذاك بقوله: \"إن كل الذي يعنيه هذا، ليس بالضرورة أن تكون البصرة على النحو الذي أردناه لها، وإنما يعني أن الفصل التالي من تاريخ البصرة الحديث، سيتولى كتابته العراقيون أنفسهم\". ومضى بلير مستطرداً في القول إنه \"سيستمر نشر القوات البريطانية في العراق، بغرض تقديم الدعم للسلطات الأمنية المحلية حتى حلول العام المقبل، بقدر ما يرغب في وجودنا العراقيون، وطالما أن لنا مهمة نؤديها هناك\". لكن إذا ما عدنا بذاكرتنا إلى صيف عام 2003، فلن يساورني كثير من الشك، في أن يكون الجزء الغالب ممن هم في شارع \"وايت هول\" قد توقعوا أن تبقى قواتنا هناك بالآلاف، ولمدة خمس سنوات على أقل تقدير بعد الغزو. \r\n وعلى رغم الترحيب الذي قوبل به هذا الإعلان البريطاني في بغداد، فإن ردود أفعال واشنطن عليه، جاءت غامضة ومشوشة إلى حد ما. ومما لاشك فيه أن يكون جنرالات البنتاجون قد حدثوا أنفسهم قائلين: طالما اعتقد البريطانيون أنهم يسيطرون على الأوضاع في مدينة البصرة، فسيكون في وسعهم إضافة كتيبة واحدة أو كتيبتين إلى حجم القوات المزمع زيادتها في العاصمة بغداد. ذلك أن العرف المتبع في كل تحالف عسكري فاعل ومتماسك الصفوف والأهداف، أن يقدم طرف من أطرافه، يد المساعدة والدعم للطرف الآخر الذي يواجه ضغوطاً ومصاعب في ميدان ما من ميادين المعركة الواحدة المشتركة. غير أن الحقيقة هي أن القليل جداً من مسؤولي الحكومة البريطانية، يعتقد الآن أن التوفيق سيكون حليف القرار الأخير الذي اتخذه بوش بزيادة عدد قواته في العراق. \r\n أما دبلوماسياً، فقد أعلن البيت الأبيض أن قرار الحكومة البريطانية الأخير، يعد مؤشراً على إحراز تقدم ملحوظ في البصرة. والحقيقة أن هذه المدينة، قد أصبحت في خناق وقبضة المليشيات الشيعية التي تفرض عليها قانوناً إسلامياً متشدداً. إلى ذلك وبعد أيام قليلة فحسب من إعلان قراره المذكور أمام مجلس العموم البريطاني، صرح بلير معرباً عن اعتقاده بلا جدوى التصدي العسكري للأزمة النووية الإيرانية، مؤكداً في الوقت ذاته، أن الدبلوماسية هي السبيل الوحيد لإحراز أي تقدم باتجاه حلها. وبذلك ربما تكون هذه اللحظة الوحيدة التي تحاول فيها بريطانيا فصل مياهها عن سياسات رئيس أميركي طالما وصمت بالخيبة والفشل الذريعين. \r\n وفي لندن كذلك، تصر وزارة الدفاع على أن تقدماً كبيراً قد حدث في تهيئة الجيش العراقي، وإعداده لتولي المهام التي كانت تضطلع بها القوات البريطانية. غير أن \"ماثيو باريس\"، المعلق الصحفي القدير، وعضو \"حزب المحافظين\" السابق، أصاب في تعليقه المنشور بمجلة \"تايمز\" الصادرة يوم الرابع والعشرين من فبراير المنصرم بقوله: \"لقد خسرنا ولم نؤدِّ المهمة التي تعهدنا بها، إضافة إلى تعذر أدائنا لها الآن. وقد أصبح في وسع الجميع رؤية ذلك بكل وضوح. فالأجواء البريطانية اليوم، أسيرة شعور طاغٍ بخيبة الأمل والهزيمة. وإذا ما أخذنا برأي الناخبين، فعلى الأرجح لا ترى غالبيتهم أن التوفيق قد حالف السياسات التي اتخذتها بريطانيا إزاء العراق، أو أن عودة القوات البريطانية هي تتويج لقيامهم بالمهمة التي أوكلت إليهم هناك\". وتبقى الحقيقة أن انسحاب نحو 1600 جندي فحسب من جنودنا، من دولة بحجم وسعة العراق، لن تحدث أي فارق يذكر على الأوضاع فيه. وإلى جانب زيادة عدد القتلى بين جنودنا، ومحدودية المهام التي يضطلعون بها هناك، فهم لا يزالون يوصفون بأنهم \"غزاة محتلون\" من قبل أغلبية المواطنين العراقيين. \r\n \r\n