فقد عاد الناخبون ومتابعو الانتخابات التشريعية إلى بيوتهم يوم الثلاثاء الماضي، وهم يعرفون مسبقاً الحقل الرمزي والمضامين الدلالية التي ستحفل بها الحملة الانتخابية المقبلة. وهكذا واستعداداً للسباق القادم توزع اهتمام الصحافة ووسائل الإعلام المرئية بين السيناتور هيلاري كلينتون، التي وجهت شكراً خالصاً لمؤيديها لفوزها الساحق بمنصب \"سيناتور\" مدينة نيويورك على خصومها، وبين السيناتور من أصول أفريقية \"باراك أوباما\" الذي لا تفارق الابتسامة شفتيه عن ولاية إلينوس، حيث وقف أمام وسائل الإعلام ليعطي تحليلاً حذراً حول نتائج الانتخابات. ومع أنه لا أحد منا اهتم بالموضوع كثيراً، فقد كان لافتاً أن المتنافسين المحتملين لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة عن الحزب \"الديمقراطي\" كانا امرأة وأميركياً من أصول أفريقية. والأكثر من ذلك تأتي الترشيحات اللافتة لشخصيتين سياسيتين غير نمطيين في ظل صعود \"نانسي بيلوسي\"، كأول امرأة إلى منصب رئيسة الأغلبية \"الديمقراطية\" في مجلس النواب، ودخول ثاني أميركي من أصول أفريقية إلى \"مجلس الشيوخ\". \r\n \r\n الترشيحات أيضاً توحي بتغيرات مهمة تطال الحياة السياسية الأميركية، لكن ليس بالطريقة التقليدية، أو المباشرة المعهودة من قبل، بل هي تغييرات تمس بالأساس الجانب الرمزي والثقافي من السياسة الأميركية، وتؤذن بدخول عهد جديد والقطع مع حقبة ثقافية، أصبحت في حكم الماضي البعيد. وفي هذا السياق تطل علينا الأسئلة التالية: هل الأميركيون مستعدون لإسناد مسؤولية قيادة البلد إلى امرأة، أو أميركي من أصول أفريقية؟ وهل الشحنة الرمزية التي يحيل إليها كل من هيلاري كلينتون و\"باراك أوباما\" كفيلة بدفعهما قدماً لتحقيق طموحاتهما السياسية؟ وبمعنى آخر هل الولاياتالمتحدة أكثر تقبلاً للانقسامات على أساس الجنس أي \"الجندرية\"، أم هي أكثر استساغة لتلك التي تتحدد على أساس عرقي؟ ورغم استطلاعات الرأي المستمرة التي تجريها المؤسسات المختلفة، فإنه لا تتاح أمامنا فرصة قياس اتجاهات الرأي العام الأميركي حيال مواضيع معينة إلا مرة كل سنتين عندما تنظم الانتخابات النصفية لنواب الكونجرس الأميركي. ومن تلك الأسئلة والمواضيع قضية الدين ودوره في الحياة السياسية، ومدى استعداد الأميركيين للانخراط في القضايا الدولية، أو الانعزال بعيداً عنها، وأيضاً مدى استعداد الطبقة المتنفذة ذات الأصول العريقة في الولايات الشمالية الشرقية للسماح لأهالي تكساس مثلاً بتولي حكم البلاد. لكن عندما يتعلق الأمر بقضية حساسة مثل العرق والجنس في الولاياتالمتحدة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم ليس عن مدى مشاركة النساء، أو الأميركيين من أصول إفريقية في السياسة الداخلية للبلاد، بعد تلاشي التوتر العرقي الذي ميز تاريخ أميركا القريب، بل في مقدرة السود، أو النساء على قيادة البلاد والتربع على قمة الهرم السياسي للولايات المتحدة الأميركية. \r\n \r\n وفي ظل ما تعتمل به الحياة السياسية الأميركية من حركة دائمة وتطور مستمر، يحق للمرشحيْن \"الديمقراطيين\" أوباما وهيلاري أن يتمسكا بالأمل في قيادة البلاد. فلم يعد غريباً مثلا رؤية مرشحين من النساء، أو السود يتنافسون في الانتخابات، بل ويدخلون المؤسسات السياسية الأميركية مثلما أشرت على ذلك الانتخابات الأخيرة التي حملت \"نانسي بيلوسي\" إلى مجلس النواب كأول امرأة ترأس الأغلبية \"الديمقراطية\"، و\"الديمقراطي\" \"ديفال باتريك\" المنحدر من أصول أفريقية إلى تولي منصب حاكم ولاية مساتشوسيتس. وبينما يحاول المرشحان الرئاسيان المحتملان التعامل مع إرثهما الشخصي وهويتهما المميزة، يبدو أن المرشح \"باراك أوباما\" يواجه مسألة تثير الكثير من الجدل. فهو من جهة ينحدر من أصول أفريقية مازالت تعتبر في أميركا نقطة تحسب ضده على الأقل من الناحية الاجتماعية، فقد كانت حظوظ التحاقه بجامعة هارفارد لدراسة القانون مثلاً أقل من حظوظ كلينتون الذي ينحدر من الجنوب في الالتحاق بجامعة \"يل\" الشهيرة لدراسة القانون أيضاً. ولكن مع ذلك يمكن للجانب العرقي أن يكون لصالح \"أوباما\" ويدفعه قدماً في حملته الانتخابية، إن هو عرف كيف يوظفه. فمعظم الأميركيين يودون الاعتقاد بأن ثقافتهم السياسية والاجتماعية تجاوزت الاعتبارات العرقية، أو \"الجندرية\"، وأنه لم يعد لها من تأثير على قراراتهم الانتخابية، وبأن دليل هذا التقدم في الثقافة السياسية هو دعم مرشحي الأقليات والتصويت عليهم في أهم انتخابات الأميركية، وهو السباق الرئاسي. \r\n \r\n ومهما كان العامل العرقي متجذراً في البيئة الثقافية الأميركية بسبب الماضي العنصري الأليم، يصر الأميركيون على طي صفحة الماضي واعتبارها جزءاً من تاريخ قديم. ولعل الدليل الأقوى على ذلك هو المرشح \"الديمقراطي\" المحتمل \"باراك أوباما\"، الذي أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي. فقد ركز خلال جولة قام بها في عدد من الولايات ترويجاً لكتابه الأخير \"جرأة الأمل\" على نوع جديد من الحداثة السياسية التي تقبل الآخر المغاير والمختلف بصرف النظر عن جنسه، أو لون بشرته مدشناً نوعاً غير مسبوق من التعاطي السياسي الأميركي. واللافت أن \"أوباما\" كان واعياً باختلافه والارتباك الذي يحدثه ذلك لدى جمهوره الأبيض، حيث وظف تجربته الشخصية كأميركي مهجن ينحدر من أب كيني وأم بيضاء من كنساس، ليحول عملية ممارسة السياسة المرتكزة على مهارات تقنية بالأساس إلى فعل رمزي يحيل إلى حقل ثقافي، يستحضر ماضي الظلم والعنصرية في التاريخ الأميركي. \r\n \r\n لكن إذا كان \"أوباما\"، قد اعتمد على التاريخ ليغترف منه عناصر قوته ويوظفها في حملة الترويج لنفسه سواء في الانتخابات الحالية، أو تلك التي يطمح إلى خوضها عام 2008، فإن هيلاري كلينتون لجأت إلى أسلوب آخر. فبدلاً من التركيز على تجربتها كامرأة، أو كأم نجحت في فرض نفسها سياسياً، وراحت تهمش خصوصيتها كامرأة وتركز عوضاً عن ذلك على خططها المستقبلية وبرنامجها السياسي. وقد يكون ذلك راجعاً إلى حساسية الأميركيين الأقل حدة نسبياً تجاه القضايا المرتبطة ب\"الجندر\" مقارنة مع القضايا المتصلة بالعرق في المخيلة الجمعية الأميركية. وقد يًُضاف إلى ذلك أيضاً أن تركة القمع والإقصاء التي طالت حركة الحقوق المدنية خلال فترة الستينيات، كانت أشد بكثير من الإقصاء الذي تعرضت له الحركة النسائية قبل الاعتراف بحقوقها السياسية. \r\n \r\n بنجامين والاس \r\n \r\n كاتب ومحلل سياسي أميركي \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\" \r\n \r\n