\r\n وأدت إلى قيام المغرب بسحب سفيره في الفاتيكان، وإلى إعراب رؤساء الدول الإسلامية، من تركيا وحتى إندونيسيا، عن انتقاداهم لصدور تلك الأقوال من بابا الفاتيكان، وإلى تعليق شيخ الأزهر على ما قاله البابا حيث وصفه بأنه يعبر عن \"جهل بالإسلام\"، كما أن عدداً من زعماء المنظمات الإسلامية طالبوا البابا بتقديم اعتذار علني. وأدت تلك المحاضرة أيضاً إلى إشعال فتيل تظاهرات عامة في العالمين العربي والإسلامي، حرق المتظاهرون خلالها دمية تمثل البابا في أفغانستان، وإلى أعمال عنف ضد المسيحيين وضد الكنائس المسيحية في أماكن مختلفة. \r\n وكان البابا قد بيَّن أن غرضه الأولي من تلك الكلمة كان مناقشة موضوع \"الدين والعقلانية\"... وأنه قد فعل ذلك استجابة لهمٍّ رئيسي من همومه، وهو تجاوزات العلمانية، والضعف المتزايد للمسيحية والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، سواء في بلده ألمانيا أو في باقي أوروبا، والمحاولات الرامية إلى استبعاد الدين من مضمار العقلانية. \r\n ورغم أن الفاتيكان أكد أن البابا لم يكن يقصد الإساءة لأحد، فإن ملاحظاته أدت بالفعل إلى إغضاب العديد من المسلمين. وكان أكثر ما أغضب المسلمين في محاضرته استشهاده بأقوال إمبراطور بيزنطي من القرن الرابع عشر حول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، قال فيها ذلك الإمبراطور، حسب نص الكلمات التي استشهد بها البابا في محاضرته: \"أخبروني عن الشيء الجديد الذي أتى به محمد، غير كل ما هو شرير وغير إنساني، مثل أوامره حول نشر الدين الذي بشر به بحد السيف\". إن الرسول يحظى بالتوقير والإجلال في الإسلام، باعتباره خاتم الرسل من ناحية، وباعتبار حياته تمثل النموذج الذي يجب أن يقتديه جميع المسلمين. أما القول بأنه قد أمر بنشر الإسلام بحد السيف، كما جاء في كتاب الإمبراطور البيزنطي، فأقلَّ ما يمكن أن يقال عنه إنه قول غير دقيق. فنصوص القرآن والأحاديث النبوية الشريفة تحدثنا عن الحق في الدفاع عن الإسلام والمسلمين من خلال محاربة أهل مكة الذين كانوا يهددون المسلمين وينكِّلون بهم. والشيء غير المتيقن منه حتى الآن ما كان يقصده البابا بقوله إن الآية التي تقول \"لا إكراه في الدين\" قد نزلت في السنوات المبكرة من عهد الرسالة الأول، عندما كان المسلمون لا يزالون في مكة، وهي فترة كان محمد فيها - كما قال البابا- ضعيفاً وعاجزاً ويعيش هو والمؤمنون به تحت التهديد، غير أنه تم تجاوزها لاحقاً عندما حكم محمد المدينة بالأوامر التي تم تدوينها في القرآن لاحقاً، وخصوصاً المتعلقة منها بدعوته إلى الحرب المقدسة. \r\n وفي الحقيقة فإن تلك الأقوال غير دقيقة إطلاقاً، فآية \"لا إكراه في الدين\" ليست آية مكية، وإنما نزلت في الفترة المدنية اللاحقة، علاوة على أن الجهاد في القرآن يختلف عن \"الحرب المقدسة\" في المسيحية. أما تأويل \"الجهاد\" وفق كثير من مفاهيمه السائدة الآن، فقد حدث بعد سنوات على وفاة النبي محمد، وذلك على أيدي بعض السلاطين لتبرير توسعاتهم وحكمهم باسم الإسلام. \r\n البابا بنديكت السادس عشر من رجال الدين المتميزين، ليس في ذلك شك، ولكنه ليس خبيراً في الإسلام مثل بعض العلماء الذين خدموا في الفاتيكان خلال الفترات الماضية القريبة، والذين عملوا مستشارين لمنصب البابوية... ولو كان واحداً من هؤلاء المستشارين موجوداً، لكان قد أمكن بسهولة تلافي تلك الإشارات غير الملائمة للإسلام في محاضرة البابا التي ألقاها في ريجينسبورج. \r\n وإذا ما كان غرض البابا حقاً هو مناقشة العلاقة بين الدين والإكراه من ناحية، وبين الإيمان والعقلانية من ناحية ثانية، فإنه كان يجب أن يعرف أن تاريخ المسيحية ذاته يحفل بالعديد من الأمثلة في هذا الشأن، مثل محاكم التفتيش ومحاكمة جاليليو وغير ذلك من الموضوعات التي تطرَّق إليها هو نفسه في محاضرته؛ كالعنف والتطرف والحروب المقدسة... وما كان بحاجة إلى الاستشهاد بفقرات مستقاة من مصادر مثيرة للجدل مثل تلك التي استقاها منها. \r\n لكن هل بالغ المسلمون في رد فعلهم على أقوال البابا؟ في الحقيقة أن رد فعل المسلمين يجب أن ينظر إليه ويفهم في سياق عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، والذي يتميز بزيادة حدة الاستقطاب، والزيادة المزعجة في وتيرة ظواهر مثل كراهية الأجانب والخوف المرَضي من الإسلام. وتشير نتائج استطلاع للرأي أجراه معهد \"جالوب\" وغطى دولاً إسلامية يبلغ عدد سكانها 800 مليون نسمة، وتمتد من المغرب إلى إندونيسيا، إلى مدى الاستياء والسخط واسعي النطاق واللذين سادا العالم الإسلامي كنتيجة لما رآه المستطلَعون احتقاراً للإسلام والعرب والمسلمين في الغرب. وقد أظهر السجال الذي دار في أوروبا بشأن الرسوم الكرتونية المسيئة لشخص الرسول، مدى خطورة ظواهر كراهية الأجانب والخوف المرَضي من الإسلام، ومدى عمق الغضب والإحساس بالإهانة البالغة لدى المسلمين. في هذا الإطار يصبح من الميسور علينا فهم السبب الذي يجعل المسلمين يعبرون عن إحباطهم وغضبهم بهذه الطريقة، والذي يدفعهم إلى مطالبة البابا بالاعتذار، وفتح باب الحوار وذلك بنفس الطريقة التي طالب بها زعماء يهود بمقابلة البابا وغيره من قادة الكنيسة الكاثوليكية بسبب تعليقات أو أفعال رأوها مسيئة لديانتهم. كان هذا هو الوضع بالنسبة لزعماء اليهود في أميركا قبل الزيارة البابوية عام 1987 والتي قابل البابا الراحل يوحنا بولس الثاني خلالها كورت فالدهايم. وكما علق زعماء مسلمون بارزون خلال سجال الرسوم الكارتونية، والموقف الحالي، فإن التعبير عن القلق أو عن الإحساس بالإهانة البالغة، لا يستبعد إمكانية النقاش والحوار، كما أنه لا يجب أبداً أن يكون مبرراً لارتكاب أعمال عنف. \r\n لقد اعتذر البابا، ولكن هناك المزيد مما يمكن عمله. من ذلك على سبيل المثال أن يقوم البابا بدعوة زعماء وعلماء دينيين مسلمين للالتقاء بهم، لمناقشة الموضوعات التي أثارتها محاضرته، ولكي يستمع منهم لهمومهم واستجاباتهم على ملاحظاته تلك عن الإسلام. ويمكن الاستفادة من زيارة البابا الوشيكة لتركيا، كي يقوم خلالها بالتعبير علناً عن احترامه للإسلام والمسلمين، ورغبته في مواصلة الإنجازات الكبيرة التي حققتها الكنيسة الكاثوليكية في مجال الحوار المسيحي– الإسلامي. \r\n لقد حان الوقت للتحرك قدماً: فالبابا اعتذر، والمسلمون، والكاثوليك (وجميع المسيحيين في الحقيقة)، يجب أن يعودوا مرة ثانية إلى المسار السليم، والبناء على الإنجازات المهمة في الحوار بين الأديان في العقود الأخيرة. \r\n ومن الأشياء الحيوية بالنسبة للعلاقات الكاثوليكية الإسلامية في القرن الحادي والعشرين، تلك الكيفية التي يمكن بها لبنديكت السادس عشر خلال فترة توليه لمنصبه البابوي، وكذلك الكاثوليك بأسرهم، العمل مع نظرائهم المسلمين، من أجل التغلب على الجهل والعداوة، وعلى التهديد الذي يمثله العنف وعدم التسامح على الصعيد العالمي. \r\n \r\n