\r\n إن الحروب التي دارت في سبيل الفوز بخلافة يوغوسلافيا لم تكن فقط بمثابة امتحان لشعب هذا البلد المتميز؛ بل لقد أدت أيضاً إلى إثارة عدد من التساؤلات الضخمة بشأن ممارسة العدالة الدولية. هل تؤدي المحاكم الدولية، كتلك التي مثل أمامها ميلوسيفيتش قبل وفاته، إلى تشجيع أو إرجاء مراجعة النفس وإصلاح ذات البين في هذه المجتمعات المدمرة؟ هل تؤدي إلى تعزيز أو تقويض الاستقرار السياسي الضروري لإعادة بناء المجتمعات المحطمة والاقتصاد الممزق؟ \r\n إن دلالة هذه الأسئلة مختلطة إلى حد كبير. والحقيقة أن سجل المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة (ICTY)، والتي تتخذ من لاهاي مقراً لها، قد يكون مفيداً في الحكم على مصداقية الإستراتيجية المبنية على استخدام مثل هذه المحاكم كجزء من الجهود الرامية إلى إنهاء الحروب الأهلية أو أي حروب أخرى. فخلال ثلاثة عشر عاماً، أنفقت المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة، والتي بلغ عدد موظفيها 1200 موظف، ما يقرب من 1.25 مليار دولار أمريكي من أجل إدانة عدد ضئيل من مجرمي الحرب. فضلاً عن ذلك، فعلى الرغم من أن أفراداً من كافة المجموعات العرقية في البلاد ارتكبوا جرائم حرب، إلا أن المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة اتهمت وأدانت عدداً كبيراً من الصرب مقارنة بالجماعات الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تغذية الشعور، حتى بين خصوم نظام ميلوسيفيتش، بأن المحاكمة كانت ذات دوافع سياسية، وأنها مناهضة للصرب. \r\n قد نشعر بالأسف لأن محاكمة ميلوسيفيتش انتهت دون التوصل إلى حكم نهائي، لكن الاكتفاء بإدانة ميلوسيفيتش، ولو كان ذلك مبرراً، دون توقيع عقوبات موازية على نظرائه من الكروات، والبوسنيين، وألبان كوسوفو، لن تؤدي بأي حال إلى دفع شعوب ما بعد يوغوسلافيا إلى مراجعة الذات على نحو جاد. \r\n مما لا شك فيه أن اعتقال الجنرال آنتي جوتوفينا الذي ينظر إليه العديد من الكروات باعتباره بطلاً ولكنه مسؤول عن الترحيل الوحشي لربع مليون صربي من كرواتيا وشمال غرب البوسنة وهي أكبر عملية تطهير عرقي تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من شأنه أن يحسن من موقف المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة. لكن نظراء ميلوسيفيتش من الكروات والبوسنيين، مثل فرانجو تودجمان وعلى عزت بيجوفيتش، ظلوا حتى وفاتهم ولم توجه إليهم المحكمة أي اتهام. وكذلك كان الأمر مع القادة الرئيسيين لجيش تحرير كوسوفو. كان راموش هاراديناج رئيس وزراء كوسوفو قد اتهم ولكن أطلق سراحه فيما بعد. \r\n كنت على اقتناع دائم بأن ميلوسيفيتش لابد وأن يقدم إلى المحاكمة في بلغراد. ذلك أن منتقدي ميلوسيفيتش وخصومه السياسيين مثل الصحافي سلافكو كوروفيجا وإيفان ستامبوليك، المعلم السابق لميلوسيفيتش، اغتيلوا على أيدي عملاء من قوات الشرطة الصربية، التي حاولت أيضاً اغتيال زعيم المعارضة فوك دراسكوفيك ثلاث مرات. فضلاً عن ذلك فهناك أيضاً وفرة من الأدلة على استشراء الفساد في دائرة ميلوسيفيتش الخاصة، بما في ذلك بعض أفراد أسرته. \r\n وربما كان انعقاد المحاكمة في بلغراد قد يؤدي بصورة أفضل إلى تحفيز المراجعة الجادة الرصينة للماضي. ولقد كان الجو في ذلك الوقت ملائماً لهذا بكل تأكيد. ذلك أن أغلبية الصرب يعتبرون ميلوسيفيتش مسؤولاً عن الوضع المتدهور الذي انحدر إليه مجتمعهم، وفي عام 2000 خسر الانتخابات التي دعا إليها بهدف دعم سلطته. كما أكدت ضآلة عدد الجمهور الذي حضر جنازته أن قِلة من الصرب يعتبرونه بطلاً وطنياً. \r\n في ذات الوقت، وباستثناء سلوفينيا، فإن التحول الديمقراطي في منطقة ما بعد يوغوسلافيا ما زال يواجه العديد من الصعوبات. فالحروب، والتطهير العرقي، وقرارات الحظر، والعقوبات، كل ذلك لم يؤد فقط إلى إصابة نفسية عميقة، بل لقد أسفر أيضاً عن نشوء الأسواق السوداء، وانتشار التهريب، واستشراء الفساد وحكم المافيا. كما أدى قصف صربيا بواسطة قوات منظمة حلف شمال الأطلنطي في عام 1999، إلى إلحاق أشد الضرر باقتصادها، فضلاً عن العواقب الخطيرة التي تحملتها الدول المجاورة. \r\n إن النهاية الحاسمة لما تبقى من يوغوسلافيا قد لا يشكل خطر نشوب حرب على الأقل اليوم لكن إقليم ساندجاك المسلم سوف يقسم الآن بفعل حدود الدولة، والمتطرفون الألبان الذين يحلمون بألبانيا العظمى يتصورون أن نفوذهم في مونتينيجرو المنفصلة سوف يتعزز من خلال التصويت بقبول الاستقلال. والحقيقة أن أغلب الصرب والكروات في بوسنيا يعتقدون أن أفضل الحلول للمشاكل التي يعاني منها هذا البلد الحزين يتلخص في ضم المناطق التي يسكنوها إلى الدول »الأم«. \r\n وهناك أيضاً الوضع المعلق الذي تعيشه كوسوفو، حيث تطالب الأغلبية الألبانية بالاستقلال، ويهدد المتطرفون بالكفاح في سبيل الاستقلال. ويحضرني هنا التحذير الذي أطلقه أحد قادة جيش تحرير كوسوفو: \"إذا قتلنا واحداً من قوة كوسوفو التابعة لحلف شمال الأطلنطي كل يوم، فلسوف يرحل هؤلاء الجبناء\". مع الاستقلال سوف يكسب المتطرفون القاعدة التي يستطيعون من خلالها تقويض الأمن في مقدونيا، وجنوب مونتينيجرو، وجنوب صربيا، وتعريض استقرار المنطقة بالكامل للخطر. \r\n إن الصيغة التي تطرحها صربيا على كوسوفو هي كالتالي: »أقل من الاستقلال، وأكثر من الحكم الذاتي«. وهي تطالب بضمانات أمنية للأقلية الصربية والمعالم الثقافية، علاوة على السيطرة على الحدود مع ألبانيا ومقدونيا من أجل وقف تهريب الأسلحة، والمخدرات، والنساء، ومنع استخدام كوسوفو كقاعدة للمتطرفين الألبان. \r\n إن أي حل لوضع كوسوفو سوف يكون محفوفاً بالمشاكل، لكن المجتمع الدولي لابد وأن يحرص على عدم تكرار أخطاء الماضي. ففي عام 1991 تم التخلي عن مبدأ تقسيم يوغوسلافيا من خلال اتفاق سياسي تفاوضي فقط. والآن، يتعين علينا أن ندرك أن أي تغيير للحدود دون موافقة كافة الأطراف المعنية لا يشكل انتهاكاً للقانون الدولي فحسب، بل وقد يؤدي أيضاً إلى العنف. \r\n يتعين على المجتمع الدولي ألا ينخدع فيتصور أن محاكمات جرائم الحرب من شأنها أن تؤدي إلى تهميش المتطرفين والقوميين، وليس تحريكهم وتعبئتهم. والحقيقة أن الضغط على كرواتيا وصربيا لاعتقال وتسليم المشتبه بهم وهو شرط مسبق للدخول في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أسفر عن تسليم العديد من الحالات، وقد يسفر عن تسليم المزيد. لكن المحاكمات في حد ذاتها ليس من المرجح أن تؤدي إلى التسوية طويلة الأمد التي تحتاج إليها الدول الهشة في ذلك الإقليم حتى تتمكن من ضمان الاستقرار والتنمية الديمقراطية. ومن الضروري أن تستشعر شعوب البلقان أن الاتحاد الأوروبي يعرض عليها الدعم السياسي والاقتصادي. ذلك لأنها تستحق ذلك الدعم بالفعل. \r\n