وفي السياق نفسه، تقرر إعادة تنظيم إدارة المساعدات الخارجية التي تقدمها واشنطن وذلك من خلال إنشاء منصب جديد هو منصب «مدير المساعدات الخارجية». وهذا المنصب سيدعو إلى وجود تنسيق برامج المساعدات وحصرها في مهام هذا المدير بدلاً من توزيع المهمة والصلاحية على عدد من الوكالات. وسوف يقوم هذا المكتب الجديد بتطبيق ما تطلبه وزارة الخارجية ومن أجل تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية. ومن الواضح بموجب المعلومات المتوفرة أن تصريحات رايس بهذا الشأن تمثل تتويجاً لمراجعة كبيرة أجرتها الإدارة الأميركية في استراتيجيتها الشاملة منذ عام 2004 عندما أخذ الإخفاق الأميركي في العراق يكشف محدودية القدرات العسكرية الأميركية ويفرض تساؤلات حول العقيدة السياسية الأحادية التي طبقتها الإدارة الأميركية على استراتيجية الأمن القومي الأميركي منذ عام 2002. وتبين أيضاً أن واشنطن بدأت تغير سياستها منذ منتصف عام 2004 حين أخذت محافل المحافظين الجدد تفقد نفوذها وسيطرتها في تحديد السياسة الخارجية. فمنذ ذلك الوقت بدأت الأوساط التي تعارض أحادية اتخاذ القرار وتؤمن بالعمل متعدد الأطراف على الساحة الدولية بملء الفراغ الذي نجم عن تناقص نفوذ المحافظين الجدد داخل الإدارة الأميركية. ثم تعززت قوة هذه الأوساط بعد أن عين الرئيس بوش كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية التي سارعت إلى تعبئة الفراغ السياسي عن طريق وضع رؤيتها الواقعية المستندة إلى ميزان القوى التقليدي في العالم. وفي خطاب مهم ألقته في 18/1/2006 في جامعة جورج تاون وحددت فيه مصادر العمل الديبلوماسي وطرق تطبيقها، تخلت رايس بشكل تام عن سيناريو المحافظين الجدد وحلفائهم في مكتب ديك تشيني نائب الرئيس القائم على استخدام التفوق العسكري الأميركي واعتباره كافياً في منح الولاياتالمتحدة القدرة على العمل لوحدها في العالم من أجل ضمان مصالحها العالمية على المدى الطويل. وظهر جلياً أن كوندوليزا رايس تبنت فكرة وجود عالم متعدد الأقطاب بدلاً من فكرة المحافظين الجدد التي ترى أن العالم أحادي القطب والولاياتالمتحدة تشكل قوة أحادية لا منافس لها. وأقرت رايس في خطابها الشهير في 18/1/2006 أن القدرة الأميركية لها حدود ولا بد من احترام هذه الحقيقة في السياسة الخارجية التي يتعين اتباعها. وكانت رايس تعبّر عن الصدى نفسه الذي حملته الورقة البيضاء في تحليلها للقدرة العسكرية الصينية عام 2005، فقد أكدت رايس أن «الدول يزداد التنافس في ما بينها وكذلك التعاون في زمن السلم ولا يعدون أنفسهم لشن الحروب». \r\n \r\n \r\n \r\n مراكز القوى الصاعدة \r\n \r\n وأشارت رايس إلى حقيقة وجود شبكة مصالح متلاقية وغير متلاقية وتطورها في سياق توزع القوة بين مناطق مختلفة في عالم أصبح متعدد الأقطاب حين قالت: «وفي القرن الواحد والعشرين يزداد نمو وحجم مناطق جغرافية كثيرة ويزداد اندماجها الاقتصادي والسياسي والثقافي». وحددت بشكل صريح المناطق التي تظهر فيها مراكز قوى صاعدة مثل الهند والصين والبرازيل ومصر وإندونيسيا وجنوب إفريقيا، واعتبرت هذه القوى أطرافاً بدأت تشكل مجرى التاريخ. وكان من أبرز ما اعترفت به في خطابها الشهير في جامعة جورج تاون أن «القرن الواحد والعشرين الحالي لن يكون القرن الثاني الأميركي بل سيكون قرناً عالمياً تحدده القوة والمصالح المتنوعة بل إنها أطلقت على هذا القرن «قرن الإقليمية الجديدة». ومن خلال هذه الأفكار يصبح من المؤكد أن تحولاً بدأ يطرأ حقاً على التفكير الجيوستراتيجي الأميركي وأن انتقالاً من التفكير السابق الذي بدأ في 11 أيلول/ سبتمبر 2001 واستمر في الغزو العسكري للعراق في عام 2003 بدأ يظهر بالاستناد إلى ما تعلنه السيدة رايس. وهي تشير في خطابه إلى المدلول الذي يقول إن العلاقات الدولية والسياسة تأتي أولاً وليس القوة. وكانت أفكار رايس هذه قد سبقها تغير في رؤية البنتاغون (وزارة الدفاع) التي أشارت في عام 2005 إلى أن الولاياتالمتحدة تغوص في «حرب طويلة» من أجل تأمين مصالحها ضد الثوريين الإسلاميين وإلى أنها (أي واشنطن) مجبرة على اللجوء إلى الشراكة وبذل جهود مشتركة مع الآخرين من أجل الاستقرار في أنحاء العالم إذا ما رغبت باحتواء القوى الإقليمية الصاعدة على المدى الطويل. ولذلك لا يمكن القول إن صوت رايس هو الصوت الوحيد الذي يعبر عن التغير في السياسة الأميركية بل هناك أصوات أخرى تعرب عن قبولها داخل إدارة بوش بواقع تعددية أقطاب القوة في العالم وليس بأحادية القطب الأميركي. ولا شك أن هذه الحقيقة تضع الولاياتالمتحدة في قواسم مشتركة مع الإجماع العالمي القائل بوجود قوى عالمية أخرى وهو ما سوف تواجهه الإدارات الأميركية المتعاقبة في هذا القرن. وحين تبدأ واشنطن بموجب هذه التغيرات بقبول عالم لا تشكل فيه تاريخه أو مجراه التاريخي بحسب جدول عملها الخاص وتوافق على أنها مجرد لاعب كبير ورئيس في إطار تعاوني يحمل صفة التنافس والعلاقات التنافسية، فإنها تضع نفسها أمام مهمة تدعوها إلى تطوير استراتيجيات تجعلها تحافظ على بعض نفوذها الذي تكون قد فقدته بسبب حربها في العراق والعالم منذ عام 2003 ومنذ إعادة توزع القوى العالمية الذي حصل رغماً عنها. ولعل هذا تماماً ما يعتبر الابتكار الستراتيجي الذي تحمله السيدة رايس وتريد استخدامه لتحقيق إصلاحات أساسية في السياسة الخارجية الأميركية. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n إعادة تحديد مصادر القوة الديبلوماسية \r\n \r\n يعتبر الخطاب الذي ألقته كوندوليزا رايس في جورج تاون خليطاً طريفاً من إيديولوجية إدارة بوش التي ظهرت جلية في خطاب الرئيس للأمة لعام 2005 والذي قال فيه إن بلاده تسعى إلى دعم نمو وزيادة الحركات الديموقراطية ومؤسساتها في كل دولة وثقافة، ومن البيان الذي عرض الإجراءات البناءة التي تمثل إن تم إنجازها خطوات نحو إعادة التكييف الواقعي للديبلوماسية الأميركية في عالم متعدد الأقطاب. لكن الغريب أن تعزيز وتشجيع الديموقراطية في العالم كان دوماً شعاراً طالما تبناه معظم الرؤساء الأميركيين خلال قرن من الزمان تقريباً وكان يجري رفعه بشكل مناقض لحقيقة أن مصالح واشنطن لم تكن تحقق إلا بالتعاون مع أنظمة حكم غير ديموقراطية وبتقويض الاتجاهات الديموقراطية في دول عدة. ولذلك من غير المتوقع أن تقوم إدارة بوش بإغلاق الفجوة المعتادة والموجودة بين لغة الخطابة الرنانة وبين الممارسة والتطبيق. وهذا ما فعلته رايس بنفسها حين أثنت في خطابها في جامعة جورج تاون على الشركاء المخلصين للولايات المتحدة واعتبرت باكستان والأردن منهم وهما دولتان غير ديموقراطيتين. فإذا كان للغة الديموقراطية أي دلالة فإن الإشارة إلى من يتبناها من الدول رهن برأي المحافل الأمنية الأميركية وبالمصالح التي توفرها للولايات المتحدة. فالولاياتالمتحدة تعتبر من وجهة نظر مصالحها أن كل نظام يخدم المصالح الأميركية ديموقراطياً حتى لو كانت واشنطن تتمنى أن تكون هذه الدولة أو تلك ديموقراطية حقاً. فحين قامت ثورة الوردية في جورجيا والثورة البرتقالية في أوكرانيا ودعمت شعوبهما الاقتصاد الحر والغرب والعلاقات معه كان من الطبيعي أن تقف واشنطن داعمة لهاتين الديموقراطيتين. ولا شك أن إدراك هذه الظاهرة جعل حركات كثيرة في العالم تحمل وجهة نظر تشك بأهداف واشنطن وتنأى بنفسها عنها. لكن المفهوم البارز في صيغة السيدة رايس حول إيديولوجية «الدمقرطة» يقوم في الحقيقة على ما أطلقت عليه اسم «الديبلوماسية الانتقالية» وهو ما تعرفه ب«الديبلوماسية التي لا تشخص وتصف العالم كما هو فحسب، بل تحاول تغيير العالم ذاته». وما يمكن استنتاجه من كل تصريحات رايس هو إما أنها تعيد استخدام الصياغة نفسها التي تلجأ إليها الدول للتقرب من الدول الأخرى أو أنها تشير إلى وجود سياسة تدعو إلى تغيير الأنظمة بطريقة أكثر لطافة ونعومة لكي تبدل من صورة التدخل العسكري الأميركي لتغيير النظام في العراق. فإذا كان المقصود من عبارة «الديبلوماسية الانتقالية» هو تغيير أنظمة حكم معينة، فإنه من غير الواضح ما إذا كان التصريح العلني الأميركي باتباع سياسة زعزعة استقرار دولة ما من أجل تحقيق استقرار أكثر فيها سيخدم المصالح الأميركية. ولا شك أن الأهمية الناجمة عن استراتيجية الديبلوماسية الجديدة التي تريد رايس تبنيها لا تتفق مع لغة الخطاب الأيديولوجي المستمرة، بل تتوافق هنا مع وجود إجراءات بناءة لإعادة تحديد ورسم مصادر العمل الديبلوماسي الأميركي التي ستدشن ما يمكن اعتباره توجهاً طويل الأمد في السياسة الخارجية الأميركية بغض النظر عمن سيتسلم الإدارة الأميركية وعن طبيعة الأيديولوجيا التي ستظهر. وإذا قرأنا خطاب رايس المذكور بعناية سنجد إذا ما أخذنا بالاعتبار ما أعلنه مرشح الديموقراطيين عام 2004 جون كيري حول السياسة الخارجية أن رايس أعلنت أنه «على ضوء احتمالات وجود علاقات سلمية في المستقبل بين القوى الكبرى ستصبح مسألة الشخصية الأساسية لأنظمة الحكم الآن أكثر أهمية من مسألة التوزع الدولي للقوة». وحين حددت طبيعة الأخطار التي تتعرض لها الولاياتالمتحدة ذكرت رايس عدداً منها أهمها: «الإرهاب، وانتشار السلاح النووي، والأوبئة والدول الفاشلة». واعتبرت أن مواجهة هذه الأخطار يتعين أن تتم عن طريق التعاون مع الدول الإقليمية الكبيرة والوصول إلى المناطق التي تنطلق منها الأخطار. \r\n \r\n \r\n \r\n إعادة رسم مهمة الديبلوماسية الأميركية \r\n \r\n وتتصدر الخطة التي أعدتها رايس لمواجهة هذه الأخطار مهمة إعادة توزيع الديبلوماسيين الأميركيين على مراكز القوى الصاعدة في قدراتها وبشكل فوري وتبديل ثلث الديبلوماسيين الأميركيين الذين يبلغ عددهم 4000 في أنحاء العالم. وسوف يعاد رسم مهمة الديبلوماسية الأميركية من خلال سلسلة إجراءات سيكون من بينها تنفيذ فكرة «الانتشار المتقدم» للديبلوماسيين وهذا يعني ذهاب الديبلوماسيين الأميركيين إلى الميدان في الدول وإدارة برامج مهامهم إضافة إلى مهامهم التقليدية الأساسية. وسوف تنشئ واشنطن مراكز ديبلوماسية عامة لمواجهة وسائل الإعلام المعادية للولايات المتحدة وخصوصاً في مدن الدول الأخرى وليس في عواصمها فحسب. وسوف تقام «مواقع حضور أميركية» عبر شبكات الأنترنيت للتخاطب وعرض الأفكار والأسئلة والأجوبة لفئات الشباب. ومن المقرر أن تدعو هذه الخطة الديبلوماسيين إلى العمل المباشر في مشاريع الرعاية الصحية، والإصلاحات الاقتصادية والتربوية ومسائل إنشاء المشاريع والأعمال ومحاربة الفساد وتشجيع العمل والممارسات الديموقراطية في المجتمع. وسوف ينسق الديبلوماسيون بعض أنشطتهم بشكل وثيق مع الجيش الأميركي من خلال المستشارين السياسيين. وسوف يتمتع مكتب وزارة الخارجية الأميركية «لشؤون إعادة البناء وتحقيق الاستقرار» بصلاحية التصرف بمئة مليون دولار تخصصها وزارة الدفاع من أجل تسهيل حل النزاعات بين الدول وهو مبلغ خصصته الوزارة بعد حرب العراق. وتقول السيدة رايس إن رؤيتها الجدية للعمل الديبلوماسي واستراتيجيته ستعتمدان على تبني «المبادرات الشجاعة» لكي تتحول واشنطن إلى لاعب أقوى وأكثر فاعلية في عالم متعدد الأقطاب ولكي يتحقق لها النجاح في فرض إصلاحات وفي تقديم المساعدات الكافية لهذه الإصلاحات. وسوف تتجاوز هذه المساعدات ظروف العجز الموجود في الميزانية العامة الأميركية لأنها لن ترتبط بها بشكل مباشر. \r\n \r\n \r\n \r\n مشكلة الشك بالأهداف الأميركية \r\n \r\n لكن هذا كله يثير أيضاً مشكلة تتعلق بوضع الطرق المناسبة لحماية أمن مواقع «الوجود الأميركي الديبلوماسي» الجديدة التي ستعتمدها خطة وزارة الخارجية، إضافة إلى ضمان فاعلية هذه المواقع في المناطق المهمة مثل منطقة الشرق الأوسط بشكل رئيس لأنها من المناطق التي يزداد فيها العداء ضد الولاياتالمتحدة ومعارضة سياستها. وفي النهاية، لا بد من معرفة عدد الدول التي ستسمح لمزيد من الديبلوماسيين الأميركيين بالعمل داخل بلادها وتطبيق هذه البرامج فيها، خصوصاً وأن دولاً كثيرة لا تزال تحمل شكوكاً تجاه أهداف الولاياتالمتحدة. ولا يخفى على أحد أن رايس تسعى إلى اتباع النموذج نفسه الذي وضعته وزارة الدفاع الأميركية أثناء إعادة نشر قواتها في أوروبا وكوريا الجنوبية وشملت قواعد أميركية أصغر في شرق إفريقيا وآسيا الوسطى. والجدير بالذكر أن هذه الخطة تعرضت لقيود ونجاح محدود جداً في مناطق آسيا الوسطى وشرق إفريقيا لأن واشنطن دفعت أنظمة الحكم هناك إلى الاستفزاز وزيادة مظاهر العداء خصوصاً في أريتريا وأوزبكستان. ويبدو أن هذه المتاعب نفسها ستواجه خطة رايس حين تتجه إلى تنفيذها في تلك الدول. وحين نناقش خطة رايس الجديدة بمجملها نجد أن أهم عنصر فيها هو الاعتراف الواضح بأن «الشراكة» ضرورية جداً في إزالة الأخطار التي يتعرض لها الأمن الأميركي وبأن التحول في طريقة عمل الديبلوماسيين الأميركيين في مراكز القوى الإقليمية الصاعدة من الضرورات الملحة لتحقيق أهداف هذه الخطة. فإن كل ما يمكن لهؤلاء الديبلوماسيين القيام به ومدى فعاليتهم سيعتمد بشكل أساسي ومتزايد على مواقف واشنطن تجاه النزاعات بين الدول أكثر من اعتماده على آلية عمل الديبلوماسيين وكياستهم السياسية. وسوف تعتمد رايس على سلة المساعدات الأميركية بأوجهها ووكالاتها المختلفة من أجل النجاح في تنفيذ هذه الخطة وتسهيل استمرارها. ولذلك سيتحول المكتب الجديد الذي استحدثته وزارة الخارجية للمساعدات الخارجية أهمية أولى ومباشرة في إنجاح أو إفشال هذا المشروع الكبير للسياسة الخارجية الأميركية والتغيرات التي ستطرأ عملياً عليها.. \r\n \r\n \r\n