لم يكن صدام حسين يقيناً يمثل أي خطر يتهدد الغرب أو الشرق أو أي جهة خارج حدود العراق. ومع بروز هذه الحقيقة الصارخة راح جارتون آش يحذّر: "كان علينا نحن في أوروبا وفي الولاياتالمتحدة أن نردّ.. لكن كيف؟". \r\n ولا يلبث جيرارد بيكر أن يتحفنا بالإجابة في مقال بديع دبّجه في صحيفة "التايمز" وقال فيه: "الحقيقة العصية على التصور، مع أنها لا مهرب منها في نهاية المطاف، هي أن الزمان الذي يتعين علينا فيه أن نعد العدّة لحرب إيران قد أزف، بل صار وشيكاً". \r\n لكن لماذا ينبغي أن تسير الأمور بهذا الاتجاه؟ \r\n " فلو أنّ إيران اجتازت القنطرة سالمة دون أن يتعرض لها أحد بسوء وحازت السلاح النووي، فسيكون هذا مستهل عهد جديد في تاريخ العالم، ولن يقل هذا خطورة عن ظهور الثورة البلشفية، أو مجيء هتلر وصعود نجمه".\r\n ولا بد هنا أن القراء سوف يسترجعون ذكرى حديث ساخن عالي النبرة سبق الهجمة على العراق وغزوه، ويكاد يتطابق مع ما نخوض فيه. ويضيف بيكر: "إيران آمنة اليوم بالطبع خلف جدارها النووي، ولسوف تصعّد بالتأكيد من حملة الإرهاب التي تشنها في أرجاء العالم، بل ستصبح أشد اجتذاباً للإرهابيين وتتحول الى ملاذ أكبر للإرهاب". \r\n كان هذا هو جيرارد بيكر ذاته الذي كتب في "الفايننشال تايمز" في فبراير/ شباط من عام 2003 يقول: "سوف يبرهن النصر في العراق وبسرعة مزاعم الولاياتالمتحدة وبريطانيا بشأن ما يمثله صدام حسين من خطر، واتساع نطاق هذا الخطر". وكانت هذه البشرى المستقبلية تثلج صدر بيكر ويمنّي النفس ولا يأبه بإطلاق العنان لفرحه الغامر بقرب تحققها بل يظهر لهفة كبيرة لحدوث هذا: "لا يسعني الانتظار لسماع ما سوف يقوله الفرنسيون والروس والألمان عندما تشرع القوات الظافرة بإماطة اللثام عن مصانع الموت التي كان صدام حسين يخبئها عن أعين المفتشين طيلة 12 سنة.. وينبغي ألا يصدم أحد إذا اكتشف جند التحرير المتحالفون كل أصناف الصلات التي كانت تربط بين بغداد والإرهاب في جميع أنحاء العالم". \r\n وبيكر هذا هو أيضاً أحد الموقعين على بيان مبادىء جمعية هنري جاكسون، وتضم لائحة دعاة وأنصار هذه الجمعية بعضاً من أكثر المحافظين الجدد تصلباً وتعنتاً، من مثل المساعد السابق لوزير الدفاع الأمريكي ريتشارد بيرل، ورئيس تحرير "الويكلي ستاندرد" وليم كريستول، والمدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية جيمس وولسي. وتنبئنا الجمعية أنها تدعم "استراتيجية تقدمية" لمساعدة تلك الدول التي لم تبلغ بعد أن تكون ليبرالية وديمقراطية لبلوغ هذه الغاية. وسوف ينطوي هذا على الزجّ بكل ألوان الطيف في الحشد الكبير من قدرات "الجزرة"، التي منها ما هو دبلوماسي واقتصادي وثقافي وسياسي، لكنه وعند الضرورة لا بد أيضاً من إشهار تلك "العصي" المتمثلة بالهيمنة العسكرية". \r\n ولقد خبرت صربيا وأفغانستان والعراق هذه "العصي" عن كثب واكتوت بنارها. ويناقش أربعة من "مبادىء" الجمعية الثمانية مسألة التدخل والقوة العسكرية ويلحظ "مبدأ" آخر أنّ: "الدول الليبرالية الديمقراطية الحديثة هي وحدها فحسب الدول الشرعية". وأما ما عداها، فدول مارقة مستباحة. \r\n عشر سنوات تفصلنا عن "القنبلة" \r\n لنعد، الى عالمنا الحقيقي المعيش، فرغم أن إيران قد أزالت الأختام عن مواقع أبحاثها لإنتاج وقود نووي، فإن الخبراء يقولون إن أمام إيران الكثير من السنوات حتى تتمكن من إنتاج قنبلة نووية. \r\n والأسلحة النووية يمكن إنتاجها بطريقتين، إما باستخدام اليورانيوم عالي التخصيب، أو البلوتونيوم المنفصل. وقد عرف عن إيران أنها أنتجت اليورانيوم المعاد تكوينه، أو ما يطلق عليه اسم "الكعك الأصفر" في منشآت التحويل في أصفهان، غير أنه، وبحسب تقرير صدر في سبتمبر/ أيلول من عام 2005 من قبل المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن هذه المادة ملوثة وغير صالحة للاستعمال في الآونة الراهنة، فإذا تجاوزت إيران هذه المعضلة وتمكنت من تنقية هذه المادة فسوف يتعين عليها عندئذ السعي لتخصيب اليورانيوم. \r\n وفي حين أنّ اليورانيوم المستخدم في المفاعلات النووية لا يتطلب سوى قدر ضئيل من التخصيب، فإن اليورانيوم الذي يعد لصناعة أسلحة نووية ينبغي أن يحظى بقدر كبير من التخصيب. ويمكن إنجاز هذه المهمة باستخدام أجهزة الطرد المركزي التي تعمل بالغاز، والتي تملك إيران منها 164 جهازاً في مرافقها ناتانز. \r\n لكن هذا لا يشكل سوى 20% من العدد المطلوب لإنتاج قنبلة نووية، ويعلق فرانك بارنابي من مؤسسة "مجموعة اكسفورد للأبحاث" البريطانية قائلاً: "ليس لديهم حالياً ما يكفي من أجهزة الطرد المركزي العاملة، وحسبما نعلم، فإن إنتاج كميات يعتد بها من اليورانيوم عالي التخصيب أو حتى اليورانيوم المخصّب يتطلب منهم أكثر من هذا بكثير". \r\n وحتى في حال كانت المنشأة جاهزة للتشغيل بنسبة 100% فمن المتصور أن تنتج حالياً يورانيوم متدني التخصيب، وليس يورانيوم من الدرجة الملائمة لصناعة الأسلحة. وفي ضوء هذه المشاكل يرى المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية أن إيران بحاجة الى عقد من الزمان على الأقل لتنتج ما يكفي من اليورانيوم عالي الدرجة لصنع قنبلة نووية واحدة. ويوافق دكتور بارنابي على ذلك بقوله: \r\n تقول "سي.آي.إيه": "إن إيران تحتاج 10 سنوات لتصل الى يورانيوم مخصّب بدرجة عالية، وهذا تقدير معقول وواقعي حسب رأيي". \r\n وبدلاً من ذلك، تستطيع إيران أن تستخدم البلوتونيوم لتنتج قنبلة. ويمكن إنتاج هذه القنبلة كمنتج فرعي لمفاعل الطاقة النووية الإيراني الذي شيدته روسيا في بوشهر، ولكن المعهد يشير الى أن إيران ستحتاج الى تبني منشأة إعادة معالجة تتناسب مع الوقود المستخدم في بوشهر، وهي مهمة فنية معقدة للغاية. وتقوم إيران أيضاً بتشييد مفاعل أبحاث يعمل بالماء الثقيل في أراك، والذي يقول عنه دكتور بارنابي إنه "ينتج بكفاءة عالية بلوتونيوم من النوع الجيد للأسلحة النووية". ولكن، ومرة ثانية، لن يكون هذا جاهزاً حتى عام 2014 على الأقل، وربما بعد ذلك التاريخ، وفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. \r\n ازدواجية المعايير \r\n لا يمكن لنفاق الغرب وازدواجية المعايير لديه أن يكونا أكثر وضوحاً من هذه الحالة، ولكن هذا أمر غير وارد ذكره في جدول أعمال الإعلام الغربي. فالتقديرات تشير الى أن الولاياتالمتحدة تملك ما لا يقل عن 1600 رأس حربي. وتملك الدولة الحليفة الرئيسية للولايات المتحدة في المنطقة وهي "إسرائيل" أسلحة نووية أيضاً، كما تملكها روسيا وباكستان والهند والصين. وكما يعلم قراء هذه المقالة، فقد باعت بريطانيا مؤخراً قاذفات قادرة على حمل رؤوس نووية الى الهند، في حين باعت الولاياتالمتحدة قاذفات مماثلة لباكستان. ولا شك أن إيران تقع وسط جيران ذوي صفات خاصة. \r\n ويرى الصحافيون في كل هذا أمراً غير ذي صلة بالموضوع. وجاء في افتتاحية صحيفة "ذي اوستن أمريكان ستيتسمان" بتاريخ 13 يناير/ كانون الثاني الماضي: "من المفهوم على نطاق واسع أن "إسرائيل" تملك بعض الأسلحة النووية، ولكن لا أحد خشي في أي وقت من الأوقات استخدامها تلك الأسلحة النووية لأي غرض سوى ردع أي غزو يمكن أن تتعرض له". \r\n وفي الواقع، يناقش المحللون بشكل علني احتمال توجيه "اسرائيل" ضربة نووية استراتيجية لتدمير منشآت إيران النووية المحمية في استحكامات في أعماق الأرض. وتثار اعتراضات على هذا السيناريو عادة استناداً الى أسباب عملية. وتحديداً، التداعيات السياسية بالنسبة للغرب. وأما الخسائر البشرية وسط الشعب الإيراني فلا أحد يتحدث عنها إلا نادراً. \r\n وبالمقابل، يصف الصحافي فيليسيتي اربوثنوت وهو مؤيد جسور للشعب العراقي على مدى سنوات الواقع الإنساني وراء استخدام "العصي" العسكرية، فيقول: \r\n "في خضم الفظائع التي يشهدها عراق اليوم، لا ينجح كثيرون في العودة الى منازلهم، إذ إنهم يختفون أو يتعرضون للاختطاف أو لإطلاق النار بواسطة قوات الاحتلال بسبب قيادتهم سياراتهم، أو السير أو اللعب في أماكن عادية. إن أرواح العراقيين هي الأرخص على وجه الأرض. إن قوات الحكومة أو الاحتلال تقتل "المتمردين" (حتى وإن كانوا أطفالاً أو مواليد) ولا أحد يطرح أسئلة". \r\n إنه أمر يستعصي على التصديق عندما يسمع المرء أن صحافيين مهما كانوا متطرفين أو يمينيين يمكن أن يطالبوا مرة أخرى بهجوم آخر على شعب بريء آخر. \r\n \r\n * كاتب مستقل متخصص في قضايا البيئة والصحة والعولمة ويشارك في تحرير موقع "سبن ووتش" لرصد التضليل الإعلامي \r\n _ \r\n