يكمن في النظرية السائدة بأن \"الديمقراطيات لا يقاتل بعضها بعضا\". وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول انبثقت عن هذه النظرية نظريات أخرى؛ منها أن تلك الهجمات كانت وليدة الكراهية والاستياء والتغريب الذي سببته الدكتاتوريات العربية، وأن إنهاء الأنظمة الشمولية في المنطقة سيجتث أسباب التطرف الإسلامي من جذورها. \r\n \r\n صارت هذه النظرية تستخدم لدعم كافة القرارات والتصريحات الصادرة من إدارة بوش في شأن الشرق الأوسط منذ عام 2003. ومن الأمثلة الرئيسة على ذلك ما طالبت به إدارة بوش، بعد وفاة ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية، بأن يكون التحول الديمقراطي للسلطة الفلسطينية شرطا مسبقا لأي تسوية سلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومن الأمثلة الأخرى تأكيد واشنطن بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، على أن تنسحب سورية من لبنان تعزيزاً \"للديمقراطية اللبنانية\"، بغض النظر عن إمكانية أن يشعل الانسحاب السوري جذوة التوترات الطائفية مجدداً، واحتمالات اندلاع حرب أهلية. \r\n \r\n ولعل تحليل الأحداث والاتجاهات السائدة في الشرق الأوسط يوحي بأن إجراء الانتخابات، وما إلى ذلك من المؤشرات الدالة على التحول نحو الديمقراطية، لا يقدم حلولاً فورية أو نهائية للتهديدات التي تتعرض لها الولاياتالمتحدة من الأصوليين الإسلاميين، وأن التطرف الإسلامي ليس بالضرورة ردة فعل ضد الأنظمة الشمولية. ففي المقام الأول، هناك حالات عديدة لم يؤد فيها التقدم نحو الديمقراطية إلى تخفيف حدة التيار الأصولي الإسلامي. ففي اليمن، على سبيل المثال، توجد انتخابات برلمانية يشارك فيها العديد من الأحزاب منذ الحرب الأهلية عام 1994، كما أن الرئيس اليمني علي عبدالله صالح سمح لمرشحين آخرين، رغم ضعفهم بصورة عامة، بمنافسته في الانتخابات الرئاسية. بيد أن هذه التوجهات الديمقراطية في اليمن لم تمنع خلايا \"القاعدة\" من اختراقه في أواخر التسعينيات من القرن الماضي. ولم تلبث القاعدة أن شنت هجوما انتحاريا لتفجير السفينة الحربية الأمريكية \"كول\" حين كانت راسية في ميناء عدن في أكتوبر/تشرين الأول 2000. \r\n \r\n وتقدّم الكويت مثالا آخر؛ فعلى الرغم من أنها ليست دولة ديمقراطية بالمفاهيم الغربية، فإنها دأبت على إجراء انتخابات برلمانية حرة، رغم قلة الناخبين وحدوث بعض المعوقات، منذ عام 1961. وقد ظهر مجلس الأمة (البرلمان) الكويتي ليقوم بمهمة حفظ التوازن والرقابة على أداء الحكومة. وعلى الرغم من هذا التقدم، فإن عددا من نشطاء القاعدة يحملون الجنسية الكويتية، ومنهم الناطق الرسمي الأول باسم أسامة بن لادن، وهو سليمان أبو غيث، الذي يُعتقد أنه في إيران، ولعله رهن الاعتقال أو المراقبة هناك. وهناك الكثير من العمليات التي ارتكبها إرهابيو القاعدة ضد الجنود والمقاولين الأمريكيين في الكويت، بما في ذلك اغتيال اثنين من جنود المارينز الأمريكيين في جزيرة فيلكة، إبان الحشد لحرب عام 2003 ضد صدام حسين. \r\n \r\n يباهي كثير من اللبنانيين بديمقراطية لبنان الذي يجري انتخابات تعددية، رغم السيطرة السورية وقدسية المعادلة التي تحرص على محاصصة المناصب القيادية الحكومية. ومع ذلك تحتفظ حركة \"حزب الله\" الشيعية الموالية لإيران بمليشيا قوية في لبنان، ترابض على طول امتداد الحدود المشتركة مع إسرائيل، وتقف على أهبة الاستعداد للتصدي لأي محاولة لجيش الحكومة اللبنانية لتجريدها من الأسلحة. وقد صنّفت الولاياتالمتحدة \"حزب الله\" كجماعة إرهابية ذات صلات عالمية، باعتبار أن هذا الحزب \"ارتكب أعمالا إرهابية؛ منها نسف السفارة الإسرائيلية في بوينس ايرس عام 1992، ونسف المركز اليهودي في تلك المدينة نفسها عام 1994\". ويمكن القول إن \"العسكرة\" التي يتحلى بها حزب الله، رغم انحسارها إلى حدٍ ما، تسبح في بحار الديمقراطية اللبنانية. \r\n \r\n وتقدم إيران مثالا آخر؛ فقد ظلت تجري انتخابات برلمانية ورئاسية تتيح تعددية الأحزاب والمرشحين للرئاسة منذ عام 1979؛ ولم توقف هذه الممارسة حتى في أثناء الحرب الإيرانية- العراقية في الفترة الواقعة بين عامي 1980 و1988. ولكن مع ذلك، ظلت إدارة بوش تصف إيران دائما بأنها \"أنشط الدول رعاية للإرهاب\". ولم تفلح كل تلك الانتخابات في منع إيران من تسليح وتمويل \"حزب الله\" في الفترة التي كان فيها ذلك الحزب ناشطا في ارتكاب \"أعمال إرهابية\" (1983-1994)، مثلما لم تفلح \"الديمقراطية الإسلامية\" في إيران في منعها من تمويل حركتي \"حماس\" و\"الجهاد الإسلامي\" في فلسطين، اللتين ظلتا تشنان الهجمات الانتحارية بالقنابل ضد الإسرائيليين. \r\n \r\n إذا أمكن الاستدلال بالأمثلة السابقة على أن التطرف الإسلامي يمكنه التعايش مع الحركة تجاه الديمقراطية، فمن الممكن أيضاً إثبات أن نمو التطرف الإسلامي، ممثلا بتنظيم القاعدة، لم يكن بالضرورة ردة فعل ضد الشمولية. فالفصيلان المصريان اللذان يعملان بالتنسيق مع تنظيم القاعدة (حركة \"الجهاد\" وتنظيم \"الجماعة الإسلامية\" برئاسة أيمن الظواهري والشيخ الضرير عمر عبدالرحمن) انبثقا عن تنظيم \"الإخوان المسلمين\"، الذي أسس عام 1928. وقد اضطرت هذه التنظيمات للعمل في الخفاء حين تعرضت للقمع إبان عهد الرئيس جمال عبدالناصر ومن بعده خليفته، أنور السادات. ومع ذلك، لم تهدر هذه التنظيمات دم السادات ولم تعمل للإطاحة بحسني مبارك أساساً لأن هذين الزعيمين كانا شموليين، أو لافتقار مصر إلى \"الديمقراطية\". لقد كان الدافع الأساسي لاغتيال السادات في أكتوبر 1981 توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل، كما أن الدوافع الأساسية لمعارضة المتطرفين الإسلاميين للرئيس حسني مبارك تكمن في ميله نحو العلمانية وتوجهاته الغربية، وليس لأنه رفض (حتى الآن) الانخراط في سلك الديمقراطية. وإذا ما قلّت الضغوط التي تمارسها أجهزة الأمن المصري على هذه الحركات، فمن المرجح أن تحاول هذه المجموعات الإطاحة بأي زعيم مصري علماني متعاون مع الغرب، حتى وإن جاء مثل هذا الزعيم إلى السلطة عبر الانتخاب الحر. فليس من المرجح أن تحّد الانتخابات أو الديمقراطية من سعي هذه الجماعات الحثيث لإقامة دولة إسلامية. \r\n \r\n المثال الأخير الذي نحن بصدد مناقشته هو ظهور أسامة بن لادن نفسه كموحدٍ لتحالف القاعدة. كان ابن لادن إسلامياً غيورا في الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن كانت طاقاته كلها موجهة لمقارعة الاحتلال السوفييتي في أفغانستان، وليس ضد الولاياتالمتحدة، بل وليس ضد العائلة المالكة في السعودية. وفي عام 1991 بدأ في معاداة العائلة المالكة، ولكن ليس ذلك بسبب رفضها التوجه الديمقراطي، وإنما بسبب استضافتها القوات الأمريكية بالمملكة لاحتواء الرئيس صدام حسين في أعقاب حرب الخليج عام 1991. وفي الواقع، وفي الوقت نفسه الذي برز فيه اسم أسامة بن لادن كشخصية معارضة في ميدان السياسة الداخلية، كان الملك فهد (عام 1993) يعلن \"النظام الأساسي\"، وينشئ مجلسا استشاريا بهدف توسيع المشاركة في الحكم. فأسامة بن لادن لا يعارض العائلة المالكة في السعودية إلا لأنها تتحالف مع الولاياتالمتحدة والغرب في الشؤون الأمنية الرئيسة. فليس لمعارضته علاقة برفض النظام السعودي إكمال صروح الديمقراطية أو تطبيقها. \r\n \r\n خلاصة القول إن المظالم التي تدفع عجلة التطرف الإسلامي، كتنظيم القاعدة، متعددة الوجوه. ففي العديد من الحالات تحتل إقامة الديمقراطية في المجتمعات العربية مكانة جد متدنية في أجندة الحركات الإسلامية المتطرفة. فهذه التنظيمات تقاتل ضد ما تعتقده نفوذا غربيا وتوجهات علمانية وثقافة غربية غير ملائمة، كما تقاتل ضد ما تراه \"لامبالاة\" من دول الغرب بمأساة الفلسطينيين وغيرهم من المسلمين. وقد يذهب الكثيرون إلى أن الترياق المضاد للتطرف الإسلامي هو حل وإنهاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني حلاً كاملا وشاملا، على الرغم من أن هذا الحل نفسه يبدو غير كاف لإرضاء التنظيمات الإسلامية المتطرفة. ولكن أياً كان الأمر، فمن المرجح أن يصاب بخيبة الأمل كل الذين يعتقدون أن التعجيل بتنفيذ الإجراءات الانتخابية والديمقراطية سيكون وحده كفيلا بالقضاء على التطرف الإسلامي. وفي إطار السعي لفرض عملية التحول الديمقراطي، من المرجح أن يكون الضغط الأمريكي لإحداث التحولات الديمقراطية سببا في فقدان الولاياتالمتحدة بعضا من أهم حلفائها الإقليميين، الذي ظلوا يقدمون الدعم القوي في معظم الشؤون الأمنية التي تخدم مصالحها. \r\n \r\n