أما إيران التي صنفت ووصفت بأنها دولة دينية متزمتة, ورفعت بسببها واشنطن عصا التهديد مراراً, بتغيير نظامها الحاكم, فقد سعت إلى \"تغيير نظامها\" انتخابياً, وذلك بانتخاب رئيس لها بأغلبية ساحقة, يقف في صفوف عامة الشعب في إحدى الضواحي الفقيرة في إيران! وفيما يبدو حتى الآن, فإن تغطيات الإعلام الغربي, تسلط الضوء على قضية الأسلحة النووية الإيرانية, في إطار اهتمامها بخبر فوز محمود أحمدي نجاد, إلى جانب تركيزها على مصير ومستقبل العلاقات الأميركية- الإيرانية. \r\n وفيما لو كان \"المحافظون الجدد\" الإيرانيون هم من سيتسلمون زمام السلطة في طهران, فإن من المفترض ألا يكون لأقرانهم في واشنطن, ما يقلقون عليه أو يشكون منه. وعلى الرغم من أن الولاياتالمتحدة قد أجرت الكثير من التغييرات السريعة المتواترة في مواقفها في الماضي, إلا أنه يظل للأيام وحدها, أن تبين ما إذا كانت واشنطن على استعداد, للبدء بتطبيع علاقاتها مع رئيس, كان واحداً بين أولئك الإسلاميين الثوريين, الذين احتلوا السفارة الأميركية في طهران عام 1979. والسؤال الذي يطرح على الولاياتالمتحدة الأميركية, بقدر ما يطرح على الاتحاد الأوروبي على حد سواء, هو ما إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي الثلاث, ستطرح على طهران صفقة مجزية ومنصفة للتفاوض حول سياساتها النووية, خاصة وأن المرجح أن تمضي هذه السياسات نحو مزيد من التشدد والتصلب. \r\n وبالنظر إجمالاً إلى ما صدر من تعليقات أولية على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية, فإن البادي فيها أنها أخفقت في تسليط الضوء على الدلالة الحقيقية لهذه الانتخابات. ولكي نبدأ بتوضيح هذه الدلالة, لنقل أولاً إن في تفضيل الشارع الإيراني للمرشح المهني المحترف, البالغ من العمر 48 عاماً, على منافسه الرئيس السابق البالغ من العمر 70 عاماً, ما يرمز إلى تنامي حس الوطنية في أوساط الشعب الإيراني, وأن أولويات الإيرانيين وأفضلياتهم إنما ترتبط بمستوى حياتهم ومعيشتهم. \r\n وفيما يبدو فقد خلق الناخبون حالة من التماثل بينهم والرئيس الجديد الذي منحوه أصواتهم, لكونه بين أبناء الجيل الإيراني نفسه, الذي عانى ويلات البطالة وعذاب الحرمان الاقتصادي. كما يبدو أنهم خلقوا حالة أخرى من التماثل بينهم ورجل مثلهم, كان قد سبق له الانخراط في صفوف الحرس الثوري, وخاض غمار الحرب ضد العدوان العراقي على إيران, دفاعاً عن تراب وطنه وأهله, فضلاً عن كونه سعى سعياً مقدراً, لتحقيق قدر من الأهلية والكفاءة والعدل في مجتمع العاصمة طهران, حين كان عمدة لها خلال العامين الماضيين. إلى ذلك فقد وعد الرئيس نجاد بإجراء إصلاحات كبيرة وملهمة, بصفته محافظاً راديكالياً. \r\n ثم هناك نتائج إعادة الجولة الانتخابية نفسها, بين المرشحين الأخيرين المتنافسين, وما تمثله دلالة مشاركة نسبة 61 في المئة من الناخبين في هذه الجولة الأخيرة. وما فوز أحمدي نجاد على منافسه علي أكبر رفسنجاني بفارق 63 في المئة إلى 35 في المئة, إلا دليل آخر على مصداقية وشرعية انتخاب الرئيس الجديد, الذي يعبر عن رأي وإرادة الأغلبية الناخبة. وللمصادفة فإن شرعية أحمدي نجاد خلال الانتخابات الإيرانية الأخيرة, تفوق كثيراً شرعية الرئيس بوش نفسه, قبيل وصوله إلى البيت الأبيض لأول مرة. كما تفوق شرعية نجاد, شرعية نظيره الباكستاني برويز مشرف, الذي يعد حالياً أقرب وأوثق حلفاء الولاياتالمتحدة! والأهم من كل ذلك وقبله – وهو ما لم يفطن له الغرب أو تجاهله عمداً- أن هذه الانتخابات التي جرت مؤخراً في إيران, إنما هي تعبير عن رغبة الشعب الإيراني وتطلعاته إلى التغيير, وحلمه بالعدل الاجتماعي وإتاحة الفرص الاقتصادية أمامه, لا سيما وأن الموارد الطبيعية الإيرانية, تحمل الكثير من الوعد والتفاؤل بواقع اقتصادي جديد. \r\n \r\n فعقب عامين من الارتفاع الفلكي في أسعار النفط العالمي, ارتفعت آمال الإيرانيين عالياً, في حدوث تحسن كبير في نمط ونوعية حياتهم اليومية. غير أن الذي حدث فعلياً, هو أن أي زيادات طرأت على الدخل القومي خلال الفترة المذكورة, بقيت حكراً على فئة قليلة من الإيرانيين, مما يعني عدم حدوث أي تحسن يذكر في حياة الغالبية الغالبة من أفراد الشعب, مع العلم بأن نسبة البطالة ومعدلاتها تراوح حول ما يصل إلى 30 في المئة. \r\n \r\n كما أسهمت ظاهرة الفساد والفوارق الاجتماعية الكبيرة بين المواطنين في مستوى الدخل, في زيادة الشعور بالإحباط بين الأغلبية منهم, مقترنة بمشاعر البؤس والحرمان الاقتصادي. وبالطبع فإن عاملاً آخر من عوامل تفاقم المشكلة, هو اعتماد الاقتصاد الإيراني على سلعة النفط وحدها, علماً بأن منتجات إيران من النفط والغاز الطبيعي, هي التي دعمت إيران ومكنتها من الصمود أمام ربع قرن كامل, من استمرار العقوبات الأميركية. وما يحتاجه هذا البلد الآن أكثر من غيره, هو توسيع فرص العمالة والتوظيف, الذي يتطلب بدوره حدوث توسع سريع في كل من الصناعات الصغيرة والمتوسطة, إلى جانب توسيع قطاع الخدمات. ومن أسف أن نظام الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي, لم يفِ بالوعود والالتزامات التي قطعها أمام نفسه والشعب الإيراني. \r\n \r\n لذا فإن أكبر التحديات التي تواجه الرئيس الجديد أحمدي نجاد, ليست هي مجرد الالتزام بما قطعه لشعبه من وعود فحسب, وإنما الاستجابة لتطلعات شعبه إلى التغيير الواسع والحقيقي, الذي ليس بالضرورة أن يتم على طريقة النزاع الإصلاحي- المحافظ, وإنما على أساس إزالة الشعور العميق بين أفراد الشعب الإيراني بالغبن والحرمان الاقتصادي, على الرغم من غنى إيران بالموارد الطبيعية ورأس المال البشري. والأمر الجيد أن لأحمدي نجاد, من الرصيد السياسي ما يجعله أهلاً لتحقيق مزيد من الانسجام والوحدة الداخلية في صفوف وتيارات الشارع الإيراني. وعلى الرغم من احتمال عدم رضا بعض الأجنحة في الحرس الثوري عن صعوده إلى سدة الحكم والرئاسة, إلا أن استناده إلى القوة, يكسبه قدرة على تحقيق المزيد من الاستقرار والكفاءة الإدارية, إلى جانب ما يتمتع به من ثقة إزاء استعداد بلاده لصد أي محاولات للتدخل أو الاعتداء الأجنبي على أراضيها. \r\n \r\n ومما لا شك فيه أن الاختبار العملي الأول الذي يواجه أحمدي نجاد, يتمثل في اختياره لمجلس وزراء حكومته. وبكل المقاييس, فإنه يصعب القول إن لأحمدي نجاد, ما يكفي من الخبرة أو الدراية بالعلاقات الدولية. لكن وعلى رغم ذلك, فإن مما لا شك فيه, أن اختياره لوزير خارجية بلاده, يكتسي أهمية حاسمة في التعامل مع عالم أو مجتمع دولي, يمر هو نفسه بمرحلة من مراحل التحول الكبيرة في حياته وعلاقاته. \r\n \r\n وعلى الرغم من استحالة الاعتماد على التكهنات المستقبلية بما يمكن أن يطرأ من تطورات على الساحة الإيرانية, إلا أن التقديرات الأولية تشير إلى احتمال أن هذه الموجة الجديدة من النزعة الوطنية الإيرانية, ربما وجدت لها هوى وصدى كبيراً في العديد من الدول النامية, خاصة شعوب الدول الإسلامية التي شعرت بالاغتراب إزاء السياسات الخارجية الأميركية المتبعة أخيراً. وسوف تكون طهران بؤرة جذب كبير, خاصة إذا ما أظهرت قدراً من تحقيق النجاح على طريق التغيير, وتحسين الأحوال المعيشية والأوضاع الاقتصادية لمواطنيها. \r\n \r\n