أما السؤال الآخر فكان يتعلق بإمكان مواجهة العالم العربي لتحديات التغيير بروح بناءة من دون وجود أحكام سلبية مسبقة. وكنت قد أكدت أن هذه المواجهة الجديدة لا يمكن تجربتها إلا بناء على قاعدة من المعرفة الكاملة بالحقائق الاجتماعية لكل طرف والاحترام المتساوي للهويات الاجتماعية - الثقافية. \r\n \r\n وهناك حديث عن الإصلاحات في الشرق الأوسط منذ فترة طويلة. كما هو الحال بالنسبة الى الحديث عن تقريب الأنظمة الاجتماعية والسياسية وكذلك التشريعات الخاصة بدول المنطقة من مقاييس الديموقراطية المقبولة عالمياً. الا ان اقتراح الرئيس الأميركي جورج بوش بشأن الشرق الأوسط الكبير - الذي يرتكز إلى مبدأين محوريين وهما الديموقراطية والسوق - قد أثار جدلاً كبيراً وعاد الموضوع لكي تكون له صفة الأولوية في جدول أعمال الأحداث السياسية الجارية. \r\n \r\n إلا أن الخبراء يقرون أن في هذه المناسبة أيضاً وجدت أوروبا والولاياتالمتحدة نفسيهما متخذتين مواقف متشعبة ازاء تحدي اعطاء المنطقة فرصة جديدة للسلام والتنمية. وظهرت الاختلافات مرة أخرى سواء من حيث المفاهيم أو المناهج. غير أن ما يبعث على الراحة رغبة البعض والبعض الآخر في ألا يفشلوا مرة أخرى في مهمة تتطلب قدرة \"الدول الكبرى\" على أن يستوحوا زعامتهم من مبادئ المساواة والتضامن وكذلك من أخلاقيات المسؤولية السياسية. \r\n \r\n ويمكن اعتبار المبادرة الأميركية موغلة في الهداية لكنها تتميز بتحديد الهدف (وهو ما يسمى \"نهاية اللعبة\") الذي يعتزم الوصول اليه. في حين أن المنهج الأوروبي يشبه قطاراً يحترم الاشارات وله محطات وصول متعددة, يصعد اليه الركاب ويهبطون منه طبقاً لأهوائهم. \r\n \r\n ان الصيغة الأولية لمبادرة الولاياتالمتحدة كشفت النقاب عن مفهوم غير دقيق للواقع الثقافي العربي. كما أظهرت المبادرة أيضاً وجود ثقة متبادلة غير كافية. ويجب أن نسأل كيف لم تنشغل الولاياتالمتحدة, قبل اطلاق مشروع الإصلاح الخاص بها, بأن تأخذ في الاعتبار ما وصلت اليه الشراكة الأورو-متوسطية, التي أنشأها إعلان برشلونة في شباط (فبراير)/ تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 من تقدم. \r\n \r\n ومن حقائق عصر هيمنة الإعلام الحالي, كون غير المرئي غير موجود. ويجب أن نقر بأن على رغم تركيز الشراكة الأورو - متوسطية على دعم الاصلاحات, لا توجد لديها شفافية وعليه تعتبر غير مهمة. \r\n \r\n ان الخطأ بالطبع لا يقع على عاتق الولاياتالمتحدة فقط, فيجب أن نسأل بروكسل إذا كان نقص الإعلام والفاعلية ليس مرجعه - هنا أيضاً - كون \"القطار\" لديه \"محطات وصول متعددة\", أي لعدم وضوح الأهداف الحقيقية, ولقلة تأثير الاجراءات على الواقع الاقتصادي للدول المنفردة. \r\n \r\n وعلى رغم هذا, من المتوقع أن تحظى أوروبا بدور رئيسي في مساعدة الدول العربية على حل عقدة - تبدو في ظاهرها مركبة - تذكرنا بالمعضلة الشهيرة الخاصة بمن جاء أولاً الى الدنيا البيضة أم الدجاجة. \r\n \r\n ولا توجد شكوك في العالم العربي حول وجوب السير قدماً على طريق الاصلاحات. لكن النقاش الدائر يتناول الى أي مدى يمكن النجاح في التعامل مع التوتر الموجود في سوق العمل, وهو توتر لا يمكن تلافيه عند القيام بالتحول الاقتصادي, إذا كان لم يطرأ تحسن في الإطار الاقليمي في الوقت ذاته. إن الرأي العام العربي في حالة غليان بسبب الصور الخاصة بالأزمة العراقية وبالعنف الدائر في الأراضي الفلسطينية التي يبثها التلفزيون, ويمكن ألا يتحمل وطء مخاطر الاستغناء عن مزيد من العمالة الذي تفرضه اعادة الهيكلة الاقتصادية. \r\n \r\n ألن تكون هناك اصلاحات كبرى الى أن يحل السلام في المنطقة؟ لا يوجد من يقر بهذا الأمر, لكن من الواضح أن النزاعات الجارية تثقل على كاهل الشعب العربي كما لو كانت سيفاً مصلتاً على رقبته باستمرار. ويمكن أن يكون المخرج هو اضفاء طريقة تدريجية على الإصلاحات من دون جعلها تمتد الى المجالين السياسي والمؤسسي. ولكن على شريطة أن يكون التدريج ملائماً مع الواقع الاجتماعي والثقافي الذي من الجيد معرفة تفاصيله. \r\n \r\n ومن الملزم أن تركز الخطة المطروحة على العرب والغربيين للاتفاق بشأنها على التحسين المؤكد وليس على التحسين الافتراضي لظروف حياة المواطنين. وسيكون من الضروري بالتوازي التعجيل بالمفاوضات من أجل التنفيذ العملي لخريطة الطريق ولإعادة تقرير مصير العراق الى أيدي الشعب العراقي. \r\n \r\n ويجب أن تتوجه الاصلاحات عملياً نحو السوق باتباع مفهوم أخلاقي يتم سنه لتلافي استغلال النفوذ والمواقف السائدة التي تضر بالمساواة. فلا يوجد أحد - ولا حتى في ايطاليا - يريد سوقاً \"متوحشة\" تكافئ الأغنياء وتدمر الطبقات الأقل حظاً. ويجب أن يكون للسوق دائماً بعد اجتماعي وأخلاقي وبعد يراعي المساواة. وقد تأتي الديموقراطية في توقيت لاحق بالاعتماد على التأثير الطبيعي للديناميكية الايجابية التي ستتولد عن حرية تبادل تجاري أكبر. وهو افتراض ليس ضعيفاً مطلقاً, نظراً لأن من الصعب اليوم بالنسبة الى الناخب العربي أن يميل نحو التعدد الحزبي في ظل غياب خيارات مختلفة للنمو الاجتماعي والاقتصادي. إلا أن بالنسبة للكثيرين - وخصوصاً الأميركيين - لن يكون هناك تنمية من دون ديموقراطية. وهو قول بالأحرى أن يكون دامغاً أيضاً لأن الديموقراطية لها أشكال متعددة ويمكن أن يقدم تطورها حلولاً أكثر براغماتية. هل من الممكن استبعاد وجود ديموقراطية في العالم الإسلامي؟ ومن يرغب في نجاح حوار الثقافات سيجيب بالنفي. ان التيار الاصلاحي الاقتصادي يشجع ايجاد أصحاب شركات صغيرة ومتوسطة, وبناء عليه تكوين ثقافة الشركات وثقافة المبادرة الحرة. وغالباً ما تساعد هذه الثقافة على خلق طبقة متوسطة ومتوسطة - عليا تمثل هيكل المجتمع الحديث وبالتالي قاعدة للتعددية الحزبية السياسية. والهدف الذي ستوجه نحوه جهود الدعم يجب أن يكون إذاً \"الحكم الجيد\", أو بالأحرى نوعاً من الديموقراطية التي تستخدم كأداة لتحقيق مصلحة الشعوب وليست بالضرورة مطابقة لتلك الديموقراطية المطبقة في بعض الدول الغربية. \r\n \r\n ان المفتاح المحوري لنجاح التيار الإصلاحي اليوم, حتى وان كان على المستوى الاقتصادي فقط, هو ثقة المستثمر, التي هي بالتأكيد ثقة ضعيفة إذا ما تعلقت بمنطقتي البحر المتوسط والشرق الأوسط. وهنا يتعين على الحكومات وحوار الثقافات أن يعملا. فالحكومات عليها أن تعود لاستخدام مبدأ المسؤولية المشتركة, أي علاقة الارتباط المتبادل بين واجبات البعض والبعض الآخر (وهو دعم يلتقي جهاً لوجه مع التغيير), أما حوار الثقافات فعليه أن يخرج من دوائر الصفوة وأن يضم عناصر المجتمع المدني القوية (بما في ذلك وسائل الإعلام), بما ينطوي عليه ذلك كله في قطاعات التعليم ونشر المعرفة والقيم التي يجب اقتسامها. وسوف أستفيض في شرح هذه المفاهيم في المقال المقبل. \r\n \r\n سفير ايطاليا في القاهرة. \r\n